أندريه موروا كاتب فرنسي معاصر، وروائي واسع الشهرة؛ وهو الآن في الخمسين من عمره، يكتب كثيراً ويعمل كثيراً، ولعله (الحركة الدائمة) التي ينشدها علماء الطبيعة، والغريب أن إنتاج موروا على كثرته خصب عميق، فيه ملاحظات نفسية قيمة، وفيه وصف بارع طريف، وفيه حلاوة قل أن تجدها عند غيره من الكتاب والروائيين
قام بسياحة إلى أمريكا منذ حين، زار في خلالها مدن الشواطئ الشرقية، ورأى آثارها، وحاضر في جامعاتها، وفهم في شهرين حقيقة المدنية الأمريكية ومظاهرها الصحيحة، ثم عاد إلى وطنه وألقى محاضرة قيمة طويلة نقتطف منها ما يلي:
(وصلت باخرتنا إلى نيويورك في الصباح الباكر فراعتني المدينة العظيمة النائمة، وطغى علي شعور غريب جميل. والحق أن مرفأ نيويورك منظر لا أعرف أبهج منه ولا أروع ولا آخذ بلب الرائي الممعن! بقينا على الماء نسير خمسة أيام ثم طلعت علينا نيويورك بوجهها الضخم وهيكليها العريض كما يطلع الجبل الشاهق على المسافر العاني بعد طوال السير وطي الأميال. وجلنا في الشوارع نسير على غير هدى، فإذا المباني ضخمة بالغة الضخامة، متينة بالغة المتانة، تشق الفضاء طولاً وعرضاً واتساعاً. ونلاحظ أن الضخامة مظهر من مظاهر الجمال، وأعني أن جمال الشيء إنما يرجع أحياناً إلى ضخامته الناشزة؛ أرأيت إلى أهرام مصر أو قصر (بيتي) كيف أن علوهما خلع عليهما جمالاً خاصاً على جمال الفن والهندسة)
(والأمريكيون شعب يعمل في جنون، فلا يريح جسده ولا يريح عقله، وإنما يجهدهما في التجارة والصناعة والاختراع؛ وهذه الظاهرة هي أقوى ما يلمح العابر السائح من الصور. ويل للمحاضر في أمريكا! إنه يخضع للحركة الأمريكية الطاغية، ففي الصباح يلقي محاضرة، وعند الظهر يرأس حفلة خطابية، ثم يحاضر في نادي النساء، وفي الساعة الخامسة يقول كلمة في جامعة كولمبيا أو الاتحاد الفرنسي؛ وأنى رحل يجد برنامجاً طويلاً سريعاً يبتدئ من الصباح وينتهي في منتصف الليل!)