تسيطر على الدراسة العالية في مصر روحان، مازالتا تصطرعان وتنتضلان، كما يصطرع الحق والباطل، في عنف وقسوة حيناً، وفي هدوء وهينة حيناً آخر. إحداهما روح جامعية تقوم على تمثيل العلم في أصح صوره أدق معانيه، وتهذيب العقل في أوسع باحاته وأكمل مجاليه، وتربية الملكات العالية التي يقوم بها ذلك العالم الصغير، وتطلب الحقيقة في مختلف أشكالها، وبشتى وسائلها؛ والأخرى روح مدرسية تعتمد على قشور من العلم لا تغني عن العلم شيئاً، وتلقين لبعض الحقائق المقررة كأنها حقائق مطلقة، وإغفال لحرمة العقل والملكات والإنسانية لأن الأمر أهون من ذلك فيما يزعمون
والأولى روح مطلقة تأبى التقيد، بعيدة الأفق لا يكاد يحدها حد، إلا ما اقتضته طبيعة العلم واستلزمته أساليب التفكير الصحيح.
والأخرى لا حياة لها إلا في أثقال من القيود المرهقة، واسداد من الحدود الضيقة، توقف الفكر، وتبلد العقل، وتعطل المواهب، وتجعل من الرجل آلة طيعة، وكأننا منفعلاً لا فاعلاً.
ففرق ما بين الروح الجامعية والروح المدرسية، هو فرق ما بين الروح الفاعلة المختارة، والآلة المنفعلة المنقادة. تلك توجه العلم للعلم، وتطلب الحقيقة من أجل الحقيقة، وتقدر المسائل العلمية تقديراً ذاتياً، لا يخضع للهوى، ولا يتكيف بغاية معينة مرسومة، ليست من العلم ولا من الحق ولا من الحياة الفاضلة. وهذه جعلت العلم مركباً إلى العيش، ووسيلة إلى نوع من الحياة الدنيا، وآلة صماء لتهيئة غرض محدود وإصابة هدف معين، فوضعت له المناهج والرسوم، وثقل بالأصفاد والقيود، وأقيمت من حوله الاسداد والحدود، وحصن من أن تصل إليه شعاعة من أشعة الروح الجامعية النفاذة، فتثير فيه طبيعة الثورة على تلك اليد الثقيلة الباطشة
وتتنازع الروحان الهيمنة على العلم، ولكن الغلبة للروح الجامعية مهما أقيمت في وجهها الصعاب، واكتأدت سبيلها العقاب؛ ذلك أن قوتها من قوة العلم، والعلم قوي غلاب، لا يصده صاد ولا يغلبه غالب. والروح المدرسية روح مصطنعة، أوجدها الضعف، ودعمها