. . . فوالله لقد جَهَدنا البلاء - يا أهل مكة - ولقد صبرنا على حصار الحجاج سبعة أشهر أو تزيد في غير حصن ولا منعة، وإنّ أحدَنا لُيرى وقد لحقت بَطْنُه بظهره من الجوع والطَّوَى، ولولا بركة تلك العين (يعني زمزم) لقضينا، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ) لقد أشبعنا ماؤها كأشد ما نشبع من الطعام، وما ندري ما يُفْعلُ بنا مُنذُ اليوم. فلقد خذَل (ابنَ الزُّبَير) أصحابه خذلاناً شديداً، وما من ساعةٍ تمضي حتى يخرج من أهل مكة من يخرج إلى الحجاج في طلب الأمان. ألا شاهتْ وجوه قوم زعموا أنْ سينصرونه، يحمون (البيت) أن يُلحَد فيه، ثم ينكشفون عنه انكشافةً كما تَتفرق هذه الحمامُ عن مَجْثمها على الرَوْع. . .
وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجاءها مِنْ صوتٍ داعٍ ومكِّبر وقارئ، وصَمدْت أريد المسجد فأسمع أّذان (سعد) مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيصلي بنا أتَّم صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقي من أصحابه أن يُوَدّع أمه (أسماء بنت أبي بكر الصديق) فأنطلق وراءه وما أكادُ أراه مما أحتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضّضُون ويُحرّضون، وزاحمت الناس بالمناكب أرجو ألا يَفوتني مشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه ولقد تَعْلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء طُوالة كأنْ سرْحةٌ في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنها تثبتُه وتُبصره، وقد برَقت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض المتهلل، ثم تنادي بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه قوة إيمانها وحنينُ قلِبها:(يا عبد الله! يا بُني، إني أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تهن ولا تجزع. يا بني ابذل مُهجة نفسك، ولا تَبعد إلا من النار. . . يا عبد الله! لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني!) ثم تدور لتلج الدار فكأنها شِراعٌ قد طُوِي