للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[وقفة ثالثة على جسر إسماعيل]

أما أنا فلم أقف على هذا الجسر. . لأن مشيتي عليه كانت أقرب إلى العدو منها إلى الوقوف. . . . إن شيئاً فقد مني فكيف تطلب مني أن أقف. . .؟ دعني أسير لأبحث عنه. . ودع قلبي يسبق بصري إلى ما وراء الجسر. . . والجسر. . . ما وراؤه. . .؟ إنني لم أجد شيئاً. . . إن نفسي كانت حائرة. . . ولكن الحيرة لم تتطرق إلى بصري. . . فقد كان ساهماً جامداً مصوباً إلى ما وراء الجزيرة، إلى ما وراء الأفق. . . الشفق البعيد، ففيه قتمة من قتمة الليل. . وفيه ظلام من ظلم البشر. . .

فكيف كنت تطلب مني يا سيدي أن أقف. . .؟ لقد كان (بافنوس) آثماً في بحثه عن (تأسيس). . لذلك كانت وقفاته كثرة. . أما أنا فلماذا أقف. . .؟ إن هرم (خوفو) بعيد عن الجسر. . فإذا وصلته فقمته بعيدة عن القاعدة. . . فإذا أدركتها فالفضاء وسيع فسيح. . .

وقف أستاذي على جسر إسماعيل فتمهل وتريث. . . للجسر جمال. . . للطير تغريد. . . للماء بريق. . .

أما أنا فلم أقف، لأن الأعمى لا يسر ناظريه ما قد يكون حوله من جمال أو بهاء أو رواء. .

أما أنا فلم أقف لأن الأصم لا يطربه تغريد البلبل. . . والأذن المصلوم لا يزينه قرط. .

أما أنا فلم أقف لأن المشرف على الغرق لا يتغزل في جمال الطبيعة ولا يستهويه خرير الماء أو تلاطم الأمواج

إن النيل الذي يجري تحت الجسر لو خلبه سحر المنظر لوقف في مكانه يا سيدي كما وقفت. . . ولكنه مثلي مثقل بالهموم، مقيد بالأوهام، محمل بالأرزاء، لذلك يهرول باحثاً عن البحر. . . ليلقى فيه الغرين الذي يثقله. . . وليدفع عنه الشاطئ الذي يقيده. . وليذيب أرزاءه في صفائه، ويمزج سكونه في اضطرابه. . . . . والفرق بيني وبين النيل. . . أن النيل بجد بغيته، أما أنا فلا أجد. . .

ثم وقف صديقي على جسر إسماعيل فتأوه وتأسى. . . فالأسد نائم. . . والثكنات متيقظة. . .

حقاً يا صديقي إن من يرى دمعك ينهمل. . . لا تمهله دموعه. . . ولكن. . . . . . اعذرني يا صديقي لأنني لم ألق لك بالاً. . . ولم أسمع أنين قلبك وأنت واقف على جسر

<<  <  ج:
ص:  >  >>