ليس من شك في أن الحضارة المصرية القديمة قد خلفت رواسب بعقليتنا الراهنة، ولكننا نتركها الآن ما دام مظهرها العام اليوم أننا أمة عربية، ونقف عند مصر الإسلامية، ونعني بها تاريخياً مصر منذ الفتح العربي إلى الحملة الفرنسية، ولهذه الفترة أهميتها في كل محاولة جادة لإدراك مقومات حياتنا الثقافية، وذلك لأن دراستها ستنتهي بنا إلى حقيقة كبيرة، هي أن مصر المعاصرة ليست استمراراً لمصر الإسلامية. وبيان ذلك هو أن الحضارة العربية والثقافة العربية لم يطرد تقدمهما ببلادنا ولا اطرد جانب الخلق فيهما، بل غلبت عليهما المحاكاة والصنعة بدلاً من الإبداع والأصالة، حتى أنه عند بدء الحملة الفرنسية نستطيع أن نقول إن مصر الإسلامية كانت تحتضر في معظم نواحي نشاطها الروحي بل والمادي. ولم يكن بد عندئذ إذا أريد لبلادنا أن تنهض من أن تقوم نهضتها على أساسين جديدين: هما بعث التراث العربي القديم الذي خلفه صدر الإسلام ببلاد الشرق العربي من جهة، والأخذ عن الحضارة الأوربية مباشرة أو عن طريق الترجمة من جهة أخرى
وظاهرة اضمحلال الثقافة العربية بمصر في تلك الفترة من الظواهر التاريخية الكبيرة التي تستحق الدرس. ونحن لا نريد اليوم أن نقف عند تقلب الحكم ببلادنا بين العباسيين والطولونيين، والأخشيديين والفاطميين، والأيوبيين والمماليك، والأتراك العمثانيين وما كان في عهد كل منهم من ضعف بلادنا السياسي أو قوتها، وتأثير ذلك في حياتها الروحية، وإنما نريد أن نفسر الظاهرة على أساس ثقافي بحت
والذي يبدو لنا هو أن هذا التفسير لا يمكن أن يستقيم إلا إذا حددنا العلاقة بين الثقافة العربية في مصر والثقافة العربية في جزيرة العرب والعراق والشام حيث نبتت تلك الثقافة
وثمة حقيقة عامة في تاريخ الثقافة العربية لها نظائرها في تاريخ الثقافات الأخرى القديمة، وهي أن تلك الثقافة قلما ازدهرت إلا حيث توجد السلطة السياسية ويوجد الأمراء الذين يرعون تلك الثقافة
ومصر في عهدها الأول بالحكم العربي لم تكن منفصلة عن الخلافة لا في عهد عمر