للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من وَراء المِنظَار

١ - صاحب السلطان الحقيقي

وهذا صاحب سلطان آخر لم أدر بادئ الرأي ماذا أسميه، وترددت بين أن أنعته بصاحب السلطان الثعبان وأن أسميه صاحب السلطان المهرج أو المشعوذ أو النصاب، حتى رأيتني أدعوه آخر الأمر على رغمي صاحب السلطان الحقيقي، ولعلها بعد كرامة من كراماته! والحق أني لم أر حتى اليوم من أصحاب السلطان من بلغ من الجاه نصف ما بلغه منه ذلك الألعبان الثعلبان

دخل الحجرة في نفر من حاشيته فسلم مسبل العينين خافض الجناح مطأطئ الرأس يكاد يتهدم من الضعف ويبدو كأنما ينوء بعمامته الحمراء الضخمة التي تعلو جبينه العريض، والتي زاد من حمرتها شدة بياض لحيته وشعر عارضيه وفوديه؛ وجلس وهو يلملم هلاهيله ويضعها بحيث لا تخفى مسبحته العظيمة التي تدور بعنقه وتتدلى إلى منتصف بطنه، وما برح يتمتم ويحرك شفتيه وهو يخلع نعليه حتى تربع على الكنبة وأسند عصاه إلى جانبه

وأحسست وقد استوى على الأريكة جواً من الهيبة يشيع المكان كله، فقد سكت الجلوس سكوتاً لم تتخلله إلا عبارات الترحيب والتحيات تزجى إلى الشيخ من كل ناحية، وهو لا يرد إلا همساً كأنما يحدث نفسه؛ وما دخل إنسان من أهل القرية تلك (المنظرة) التي جلس فيها الشيخ، والتي اتخذها العمدة مكان سهره وموضعاً للفصل بين المتخاصمين، حتى أقبل على الشيخ فتناول يده من فوق المتكأ فلثمها وردها إلى مكانها في خشوع ورهبة وفي نفسه من الغبطة من لثم يد الشيخ ما ينسيه قضيته إن كان صاحب قضية، أو يذهب كربته إن كان ذا كربة. . . وما رأيت قط صاحب قضية جرؤ على الإفضاء بما جاء من أجله في حضرة الشيخ، فليس من اللائق أن ينشغل المجلس عن الشيخ بقضية من القضايا مهما بلغ من خطرها، وإن كان الشيخ ليبدو وكأنه في شغل عمن حوله بما هو فيه من تمتمته وإطراقه

ولبث الشيخ على تلك الحال إلى أن رأيته ورآه من في الحجرة يهز رأسه هزاً عنيفاً ذات اليمين وذات الشمال ثم يدق كفاً بكف قائلاً في صوت مرتفع وعيناه مغمضتان: (الله! الله لطيف بعباده. . حي يا قيوم اصرف عنا الأذى. . . اصرف عنا الأذى يا الله!)

<<  <  ج:
ص:  >  >>