للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[١٤ - تاريخ العرب الأدبي]

للأستاذ رينولد نيكلسون

الفصل الثالث

الجاهلية: شعرها وعاداتها ودياناتها

ترجمة محمد حسن حبشي

يقول أبن رشيق القيرواني: (وكانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وتتباشر الرجال والولدان لأنه حماية لأعراضهن، وذب عن أحسابهم، وتخلد لمآثرهم، وإشادة لذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج)

وفي خلال هذا الزمن لم يكن هناك سوى أدب منطوق حفظته الرواية الشفهية، ولم يشرع في كتابته إلا بعد ذلك بزمن طويل. أما عصر الجاهلية فيشمل قرنا ونيفا من السنوات، أعني منذ سنة ٥٠٠ بعد الميلاد حينما نظمت أول قصيدة وصلت إلينا حتى عام هجرة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) إلى المدينة سنة ٦٢٢م تلك السنة التي تعد نقطة انتقال ومستهل عهد جديد في التاريخ العربي. وكان أثر هذه المائة والعشرين سنة كبيراً وخالداً، فقد شهدت نشأة تدهور نوع من الشعر اعتبره أغلب المسلمين الناطقين بالضاد مثالا للإبداع لا يتأتى الوصول إليه، فهو شعر قد سار مع حياة القوم جنبا إلى جنب. ووحد بينهم قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وسلم) بزمن طويل من الناحيتين الخلقية والروحية، وقبل أن يؤلف الرسول بين أهوائهم المتشعبة وقبل أن يجعلهم أمة تسعى من أجل غاية مشتركة، وترمي إلى مقصد واحد. في هذه الأيام لم يكن الشعر من الكماليات للأقليات المثقفة بل كان الوسيط المفرد في التعبير الأدبي، وكان لكل قبيلة شعراؤها يعبرون بحرية عمّا يختلج في النفوس ويصورون أفكارهم، وكان كلامهم الشفهي هذا ينطلق في رحاب الصحراء أسرع من انطلاق السهم، ويجد آذانا صاغية وقلوبا واعية عند جميع من يستمعون إليه. وفي وسط هذا الصراع الخارجي والتفكك كان هناك مبدأ يربطهم جميعا: ذلك أن الشعر أحيا وعمم المثل الأعلى ألا وهو: (المروءة) ولو أنها كانت تقوم على عصبية الدم القبلية،

<<  <  ج:
ص:  >  >>