كانت بركة الرطلي! إحدى منازه القاهرة، وكان الخليج المصري يجري حولها. ومنذ أن جرى حولها هذا الخليج، بني الناس فيها الدور والقصور، وامتلأت بالقطان. وزرع بعض نواحيها. فأنبتت نباتا حسنا. فاكتملت مباهجها بالزرع النضير والمياه والخرير، وأخذت الزوارق تغدو من حولها وتروح، تحمل المرتاضين وطلاب السلوة وعشاق السمر. وبخاصة عندما يحل الأصيل أو يقبل الليل. وعلى حفافيها أضواء منتشرة. ومحال للهو معدة، تستقبل الوافدين إليها ببشاشة وترحاب، وتودع الراحلين عنها على أمل وإياب. .
وعاش في هذه البركة، وارتادها، كثير من شياطين العبث وأبالسة الفساد، وعشاق المنكر، فالتاثت بذلك سمعتها حينا. وأتى عليها حين من الدهر آخر، ابتني حولها كثير من العلية بيوتهم، فعجت بالرؤساء منهم والأعيان، وطلب فيها لهم اللقاء الجميل، والتأم الشمل في المجلس الحافل. وتلاقي منهم الأحباء والخلصان. ونافست البركة في كل ذلك؛ الأزبكية وبساتينها. وقبة يشبك وحدائقها
وفي بعض ليالي عام ٩١٩ هـ كنت تشهد هذه البركة، وقد تحولت إلى قطعة من نور لكثرة ما أضىء بها من قناديل. فقد نادي محتسب القاهرة (الزيني بركات بن موسى) بين سكانها بأمر من السلطان، أن يقيموا ضروب الزينة ومعالم الأفراح على جبهات دورهم وصفحات محالهم، ابتهاجا بشفاء السلطان مما ألم بعينيه، وكان السلطان قد بارتخاء في جفنه، وحار في علاجه. ثم عكف عليه أطباؤه وكحالوه - أطباء العيون - حتى من الله عليه بالشفاء، وكان الناس خلال مرضه قد أرجفوا، ودبت بينهم الإشاعات عنه دبيبها المسموم، حتى قال قائلهم: إن السلطان قد عمى، وأصبح لا يصلح للسلطنة، وصاروا ما بين متوجع له، وبرم به، ولاه عنه، وقد داخل أمراءه ومماليكه الريب فيه وحدثتهم النفس