للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[جريمة. . .]

للدكتور محمد عوض محمد

- ١ -

في صباح يوم من تشرين الأول كان الضباب ضاربا بجرانه على شوارع (ليفربول) فلا تكاد العين أن تستبين السبيل الا عن كثب. . والمصابيح لم تزل موقدة كأنما حسبت أن الضباب بقية من الليل، وأن النهار لم يطلع بعد. . .

في تلك الساعة الباكرة أخذ الشطر العامل من أهل المدينة يتحرك، وجعلت الأبواب تتثاءب، فيخرج منها العمال أفواجا، ينشدون عملهم ويجرون وراء خبزهم وزبدهم_لأن العامل في مصر قد يقنع بالبحث عن الخبز؛ أما هناك فلا بد له من الخبز والزبد.

هذه الحركة الباكرة في بعض أحياء المدينة قد تلاها سكون؛ لأن الشطر الثني من المدينة لم يستيقظ بعد. . وكأنما كانت الحركة الأولى بمثابة الفجر الكاذب، أضاء لحظة، ثم ساد من بعده الظلام - ولكن سرعان ما انقضت ساعة الهدوء هذه، وأخذ ذلك الغطاء الكثيف من الضباب يرق شيئا فشيئاً. وبدا في أقصى الشرق على الأفق شيء غامق مبهم يدعونه في تلك البلاد الشمس. . ولقد تستطيع العين المصرية - بشيء كثير من المران - أن ترى فيه من الشمس شبها، وأن له بها صلة.

وبعد لأيٍ، تثاءبت الأبواب في الأحياء الوسطى، وخرجت منها أفواج من الحضريين (البورجوا) الذين يشتغلون في دور التجارة. فيعملون بها ساعات قلائل، ولكن أجرهم أعلى، ومقامهم في المجتمع أسمى. وهم ايضاً ينشدون الخبز والزبد. ولكنهما من صنف أرقى وأرفه من خبز العمال وزبدتهم.

وهكذا تحركت في المدينة أحياؤها السفلى والوسطى، ولم يبق مغموساً في عسل الرقاد سوى أحياء (العاطلين)، الذين يعيشون من أموال تأتيهم من وراء البحار: من الهند ومن استراليا ومن سائر أنحاء الدولة التي لا تغرب الشمس عليها. . هؤلاء لا يتحدثون عن خبز ولا زبد، بل يأتيهما الخبز والزبد طائعين يجرران الذيول. . .

وليس يعنينا اليوم من أمر هؤلاء شيء، وانما تعنينا الآن تلك الأحياء الوسطى التي لم يكد أبناؤها وبناتها يخرجون. . . كل إلى عمله، حتى فتحت الأبواب مرة أخرى، وخرجت من

<<  <  ج:
ص:  >  >>