من هنا يا آنسة؟ من هنا؟ ثم أشار إلى مائدة منعزلة كأنّما هيئت لقوم يريدون الخلوة واعتزال الناس. فلما انتهيا إليها أعجبهما مكانها الجميل على شاطئ النيل في ظل هذه الشجرة الضخمة الباسقة، قد مدّت أغصانها في قوة إلى أمام، حتى إذا تجاوزت بها الشاطئ حنتها نحو الماء، وغمستها فيه كأنما تريد أن ترتشف منه، ونظر الصديقان من حولهما فلم يريا أحدا، ومدّ الصديقان بصرهما أمامهما وأطالا النظر إلى النيل وهو يجري من تحت أقدامهما في قوة الشاب وهدوء الحكيم، ثم جلسا، وقال الرجل لصاحبته: هنا يحسن الحديث، قالت: ويحسن الصمت أيضا. وقد ظهرت على وجه صاحبها علائم تدل على أنّه لم يفهم عنها ما أرادت إليه، وأحسّت هي منه السؤال الذي لم ينطق به، فقالت وكأنها تجيب، إن تحدثنا تساقينا موسيقى الحوار، وإن سكتنا تساقينا نجوى الضمائر ووحي القلوب. ولنا في كلتا الحالين لذّة، ولنا في كلتا الحالين متاع، فخذ بأيهما شئت. قال فأيهما تريدين؟ قالت لا أريد شيئا إلاّ أن نترك أنفسنا على سجيتها. فإن انطلقت ألسنتنا سمعتها آذاننا، وإن آثرت نفوسنا الحديث الصامت وعته قلوبنا. قال وهو يضحك: أيسر من هذا كله وأدنى إلى التناول أن نتساقى ما يبرد الغليل، ويرد عنّا حرّ هذا القيظ، ثم دقّ يدا بيد في شيء من الرفق. فأقبل الخادم وتلقى عنه أمره وأنصرف.
وكان هو طويلا نحيفاً، ظاهر النشاط، خفيف الحركة، مكتمل القوة، لا يظهر عليه ما يدل على سنه إلاّ خيوط بيض متفرقة قد انتثرت في شعر رأسه انتثارا. وكان عذب الصوت، حازم اللهجة، معتدل الحديث، ولعله كان إلى الإبطاء فيه واصطناع الأناة أدنى منع إلى الإسراع والتعجل، وكان صوته يمتد من حين إلى حين، لا غضباً ولا تحمساً، ولكنه كان مقتنعا بما يقول، فكانت حدّة صوته ولينه يمثلان حظه من الإيمان والاقتناع بما يقول.
وكانت هي ربعة. ممتلئة الجسم، مستقيمة القد، معتدلة القامة، وكان وجهها مشرقا شديد الإشراق، منسقا بديع التنسيق، تمر به من حين إلى حين سحابة رقيقة جدا من حزن لا يكاد يتبيّنها إلاّ من اعتاد أن يلقاها ويطيل صحبتها والتحدّث إليها.
وكانت هذه السحابة الطارئة لا تمر بها وهي تتحدّث، إلاّ قطعت عليها الحديث فجأة، ثم لا