للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تلبث أن تزول فيتصل الحديث، ولا تمر بها وهي تسمع إلاّ لهت عن محدثها لحظة ثم تزول، وإذا هي ترفع إلى محدّثها طرفا فيه شيء كثير جداً من الحياء والإشفاق، وتستعيده ما قال في صوت عذب، ولفظ حلو، يحسن مسّه للآذان ووقعه في القلوب. وكان صوتها هادئاً عريضاً يمثل نفسا هادئة غنية ممتلئة بالعواطف الخصبة والشعور الحي والعلم الغزير.

وكأن الفرصة أرادت أن ترضي حاجتها إلى الصمت، وحاجة صديقها إلى الكلام، فقد أقاما صامتين للحظة غير قصيرة ينظران إلى سعى النهر أمامهما، كأنهما ينتظران شيئا، وكأنهما يلهوان بالنهر وسعيه الهادئ القوي عمّا يضطرب في نفوسهما من الخواطر والآراء، ومن العواطف والأهواء، حتى إذا أقبل الخادم فهيأ المائدة وصفّ أكوابه وأطباقه، وانصرف راضياً عن نفسه مبتسما لضيفيه، نظرت هي إلى صاحبها كأنها تسأله أن يبدأ الحديث فقال: وقد فهم عنها ما كانت تريد، لسنا في حاجة إلى أن نبتدئ الحديث، وما علينا إلاّ أن نأخذه حيث تركناه حين انتهينا إلى هذا المكان الهادئ الجميل.

قالت فإن هدوء هذا المكان وجماله قد أنسياني حدّة ما كنّا فيه من حوار، واضطراب ما كنّا نتبادل من رأي، فلننظر القضية من أولها، فلعل هذا الهواء الطلق وهذا المنظر الحلو، وهذا السكون الساكن، أن تكون قد ردتك إلى شيء من الصواب وصدتك عما كنت فيه من جموح. فما أرى إلاّ أنّك تظلم الأدب والأدباء جميعا، وتقسط على الشبّان والشيب. وكم أحبّ لك أن تكون سمح النفس، رضيّ الطبع، مستعداً لشيء من التجاوز، تعذر طيش الشباب، وترفق بحدة الشيوخ. قال فأحب أن أعلم أين الشباب وأين الشيب، ومتى يكون الأديب شابّا، ومتى يكون الأديب شيخا. فهذا حديث طريف لم أسمع به في مصر قبل هذه الأيام، ولقد رأيت الأدباء منذ عرفت الأدب ينشئون النثر ويقرضون الشعر على اختلاف أسنانهم وتفاوت حظوظهم من القوة والضعف، فلا يختصمون في شباب ولا شيخوخة، وإنّما يختصمون في الرأي ويختصمون في الفن، يعين بعضهم بعضا، ويدافع بعضهم بعضا، لا يعتز الشيخ على الشاب بتجاربه وكثرة ما أنتج من الآثار، ولا يعتز الشاب على الشيح بحداثته وقوته، ونظرة شبابه، واتساع الأيام أمامه، وانبساط الآمال له. قالت لم تر ذلك من قبل ولكنك قد رأيته الآن. فأيّ غناء في أن تنكر شيئا حدث الآن لأنه لم يحدث من

<<  <  ج:
ص:  >  >>