يتمتع قليل من الناس بإحساس راق مهذب، ينفعل انفعالا قوياً حينما يشهدون جمال الطبيعة أو يتأملون أسرارها، وهذا الإحساس السامي لا يصلون إليه من كثرة القراءة والاطلاع، ولا من كثرة الحفظ والاستظهار، ولا من تأبط الدواوين والكتب، وإنما يأتيهم من تدريب احساساتهم وتمرينها على التأثر بجمال الطبيعة والتأمل فيما يغمرها من أسرار، ويشرق عليها من نظام، وما يزالون يدربون احساساتهم، ويتعهدونها بالتمرين، وحتى إذا أوفوا من ذلك على الغاية، وضاقت قلوبهم عن حبيس ما يجيش فيها من عواطف وانفعالات، اضطروا اضطراراً إلى إخراج هذا الفيض القلبي متدفقاً في هذه الأنهار الجميلة التي نسميها فناً، من موسيقى ورسم ونحت وعمارة وشعر، وما أشبه قلوب هؤلاء الناس بالبؤرة الصالحة ترد إليها أشعة الاحساسات الصادرة عن صور الطبيعة المختلفة، فتحلل فيها، ثم تنعكس فكراً جميلة، وصوراً بديعة، وسرعان ما يجد الفنان نفسه مضطراً إلى إبرازها وإظهارها لأنه لا يستطيع أن يؤويها في نفسه، ولا يمكنه أن يخفيها في زوايا قلبه، فيقدمها للناس في هذه الثياب الساحرة، ثياب الفن الجميل فتسترعي ألبابهم، وتستهوي أفئدتهم.
والفنون جميعها تعبر عن عواطف مشتركة، وتسعى إلى غاية واحدة هي إظهار ما في الكون من جمال، ولهذه الصلة الواضحة بين أنواعها كان لزاماً على من يخصص نفسه في فرع من فروعها أن يتزود ما أمكن بالفروع الأخرى، وأن يتثقف بها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد فقه الغربيون ذلك وعرفوا قيمته فراح شعراؤهم يدرسون الفنون الجميلة، ويمدون شاعريتهم بما يلذ لها من صنوف طعامها، وألوان رحيقها، وبينما هم مجدون في ذلك مبالغون فيه، نجد كثيراً من شعرائنا قد استناموا إلى حياة شعرية غريبة، حياة كلها تقليد وقطيعة للفنون، فهم لا يستمدون غذاء شاعريتهم إلا من فتات مائدة، هي هذه الدواوين الشعرية التي ورثوها عن الأقدمين، يحفظون ألفاظها، ويجودون أساليبها ويبتغون مثلهم العليا في معانيها وصورها، فترى الواحد منهم إذا أراد أن يقول شعراً راجع ما قاله القدماء، والتقط ما نثروه من ألفاظ وأساليب، ونطقوا به من معان وصور، حتى إذا اجتمعت إليه مجموعة لا بأس بها من هذا كله، سلكها في هذه السلاسل التي يسميها أوزاناً شعرية، وقد نشأ عن ذلك أن قل الابتكار في الشعر. وأصبحنا لا نكاد نتأثر أو نحس به لأنه موسيقى متكررة توقع من حين لآخر على نغمة واحدة، وشاعت السرقات الشعرية عن هذه