ولد أبو الطيب في ذرور القرن الرابع عظيما بالاستعداد، قويا بالنشأة، طموحا بالفطرة؛ فلا تحاول أن ترجع هذه الصفات فيه إلى أحوال داعية وأسباب موجبة، فأن إعجاز القدرة أن يولد الملك في حجر السوقية، ويدرج العبقري في عش الفدم، ويظهر النبي في بيت المشرك؛ إنما العظمة خلقةٌ في العظيم، تقويها عوامل وتضعفها عوامل؛ فولادة المتنبي بالكوفة، وتجواله في البادية، وتنقله في القبائل، وكدحه الدائب أربعاً وثلاثين سنة وراء الرزق الشرود، يضرب من أفق إلى أفق، ويخرج من هول إلى هول، نمت فيه أخلاق الجرأة والصراحة والصدق والصبر والمغامرة واللسن؛ واتصاله بسيف الدولة الأديب الشجاع السمح، هذب فيه الشاعرية والفروسية، وهما غريزتا البداوة، وخصيصتا العروبة؛ ثم ظهوره في العصر الذي تحللت فيه روابط الخلافة، وتعددت حواضر الأدب، وتطاولت كفايات السيف والقلم إلى العروش المقدسة والمناصب الفخمة، وأثمر تداخل الثقافات المختلفة ما أثمر من شمول العلم، ونضوج العقل، واعتراض الشكوك، وتعدد الفرق، وسع في ذهنه أفق المعرفة، وقوى في نفسه الطموح إلى الرياسة، وهيج في رأسه الثورة على القدر، وأراه بعض الكتاب في بغداد يصل بالأدب إلى الوزارة، وبعض العبيد في مصر يصل بالحيلة إلى الإمارة، فطوع له رأيه في نفسه أن يبايع لها بالملك، ثم أخذها بسمت الملوك، وألزمها شارة الخاصة، وعاشر الدهماء معاشرة الأنوف المكره، وساير الرؤساء مسايرة الغريب الحاقد، وسخر قوته وعبقريته في طلب هذا (الحق) وتحقيق هذا المطلب، حتى ملأ الدنيا بذكره، وشغل الناس بأمره
المتنبي في كتاب الأدب العربي فصل قائم بذاته؛ لأن حياته التي اختلفت عليها العوامل، وازدحمت فيها الأحداث، واعتركت بها الآمال، وفاضت منها التجارب، أمكنته من نوع جديد في الشعر يتسم بالتفكير الحي، والابتكار الجرئ، والأداء الحر، فأقبل عليه عشاق الأدب وطلاب الشهرة من ذوي السلطان في خراسان والعراق والشام ومصر، يتسابقون إلى وده، ويتنافسون في رضاه، وربما توسل بعضهم بالشفاعة ليحطبه في حبله، وجلس