لو شئت أن ترى الأديب الذي يعد بحق عنواناً على (الأديب) لكان عليك أن تسعى إلى لقاء إسعاف النشاشيبي في مجلسه.
ولكنه مات، فاختفت بموته صورة فذة فريدة لن يظفر التاريخ بمثلها. وقد تجد نماذج للكثير من أدبائنا البارزين، وصوراً تحاكى أساليبهم وطرائقهم وفكرهم، ولكنك لن تعثر مع التنقيب الشديد، على صورة تشبه إسعاف، مع كثرة تلاميذه واحتفال مجلسه بالناس، واطلاع القراء على الإسلام الصحيح من كتبه، وشوقي وحافظ وغيرهما من خطبه، ونقل الأديب مما كان يتابع نشره في الرسالة.
ذلك لأنه أعلى من المحاكاة، وأسمى من التقليد.
ومع ذلك فهو الأديب الذي كلما تمثلته تمثلت الأديب في الجاهلية وصدر الإسلام كيف كان، وكيف ينبغي أن يكون. فقد قيل (إن الأدب أن تجمع من كل شئ بطرف) وكان هذا شأن إسعاف النشاشيبي: يحدثك في الفقه والشريعة، وآراء المعتزلة وعلماء الكلام، ونظريات الفلاسفة والحكماء، وطرائف الكتاب ونوادر الشعراء، مع امتلاك ناصية العربية وهى كما تعلم من أوسع اللغات، وإلمام بالأدب والعلم والفلسفة في أوربا الحديثة إلماماً يدل على طول الباع وعظيم المنزلة.
فإن قلت: عندنا كثير من الأدباء يجمعون بين هذه المعارف، ويأخذون من كل شئ بطرف.
قلتُ: ولكنك لم تحظ بالاستماع إلى إسعاف، فهو في مجلسه وحديثه غيره في كتبه ومقالاته. والفرق بين هذا وذاك هو الفرق بين المقروء والمسموع، بين اللفظة وهى على الورق جثة هامدة، والعبارة وقد خرجت من فمه تمتلئ بالحياة، وتنفذ إلى القلوب، وتستقر في الأسماع.
وهل كان الأدب في القديم إلا مجالس وأسواقاً؟.
وهو يفسد حين يؤخذ من الكتب ويحفظه المتأدبون كما تفعل الببغاء.
يُروى أن أفلاطون لم يدوّن دروسه في الأكاديمية، لأن العلم عنده لا يكون إلا سماعاً أو حواراً.