في طليعة علماء إسبانيا الحديثين يظهر أسم جوليان ريبيرا العالم البحاثة المؤرخ المتغلغل في قلب تاريخ إسبانيا في جميع أطواره ومراحله. وهو متضلع من اللغة العربية ومطلع كلُّ الاطلاع على تاريخ آدابها وله فيها أبحاث جليلة. وليس ريبيرا من اللغويين الذين يقصرون همهم على درس قواعد اللغة العربية شأن أكثر المستشرقين الأسبان باستثناء العالمين غايانكوس وكوديرا، بل جاوزه إلى التاريخ والثقافة العربية فعني بهما عناية البحَّاثة المدقق والعالم المحقق.
اعتبر ريبيرا أن للتاريخ الإسلامي كما لتواريخ بقية الأمم وجهين. السياسي والأدبي. وقد اكتفى المستعربون الأسبان قبل ريبيرا بدرس الحوادث السياسية دون أن يهتمُّوا بسواها. وأن لهذه الإهمال عذره وأسبابه، فالبحَّاثة التاريخي يبدأ بدرس الناحية السياسية لأن حوادثها أكثر وضوحاً وأسهل درساً وأقرب منالاً من درس تاريخ الثقافة وكيفية نشوئها وتطورها مما يقضي البحث في أخلاق الأمة وعاداتها وطرق معيشتها ونظمها الأدبية والاجتماعية والدينية لكي يتمكن من تفهُّم ما نعّبر عنه بكلمة - تمدن - التي هي لباب التاريخ، ولكي نتوصل إلى الإلمام بكل هذا وجب علينا أن نبدأ بما هو أبسط وأجلى وهو الوجه السياسي أي الخارجي.
إن درس التاريخ يخضع للقاعدة ذاتها التي يخضع لها درس الفلسفة، إذ لا يمكن البحث فيما وراء الطبيعة إلا بعد فهم علم الطبيعة. وعلى من شاء درس تاريخ التمدن درساً وافياً أن يكون مراقباً بصيراً ومدققاً حصيفاً يتمكن من فهم الحوادث وتمحيصها وغربلتها، لأن الحقيقة كثيراً ما تختفي وراء نقاب شفاف من الظواهر الخدَّاعة. وينبغي له أن يكون ذا قدرة على جمع الحوادث ووصلها واستنطاقها والمقابلة بينهما. وأخيراً أن يكون ذا ضمير حي فيما يرتئيه ويعلله.
لم يقدم ريبيرا في أواسط القرن الماضي على درس تاريخ التمدُّن الإسلامي الشرقي عامة والأندلسي خاصةً إلا بعد أن اجتمعت فيه كلُّ هذه الصفات الأساسية الضرورية، فولج وحده هذا الباب الذي لم يطرقه عالم قبله. وبعزيمة صادقة توغل في مجاهل هذا البحث وأكتشف حقائق كانت مجهولة أودعها كتبه القيّمة التالية:(تاريخ التدريس في الإسلام). (تاريخ المكاتب والمدارس الفقه في الإسلام). (تاريخ الفلسفة الإسلامية). (تاريخ شيوع