في أمسية طلقة (من صيف سنة ٤٨٩هـ) خرج الناس - على عادتهم - إلى صحن المسجد الأموي، فبسطوا فيه البسط، وأسرجوا السرج، حتى (كاد المسجد يقطر ذهباً، ويشتعل لهباً)، وأقبلوا عليه زرافات ووحداناً، يقضون بالصلاة حق الله عليهم، وبالاجتماع والتعاون حق بعضهم على بعض، ويعودون بثواب الله، واطمئنان النفس، وراحة البال
وليس أشهى إلى النفس، ولا أحلى في العين، من صحن الأموي في ليالي الصيف؛ وإن المرء ليطوف ما يطوف، وينشق عبير الأزهار، ويسمع تغريد الأطيار، ويصعد الجبال تتفجر منها العيون، ويدخل الجنان تجري من تحتها الأنهار، ثم يعود إلى الأموي فيراه أجمل من ذلك كله، ويجد في نفسه حين يجلس فيه هزة طرب، ونفحة أنس، لا يجدهما في شيء من ذاك. . .
وكانت عشية ريحة، تنسم نسماناً منعشاً، فامتلأ المسجد بالناس وهم بين متوضئ يخلع رداءه فيلقي به على بلاط المسجد الأبيض الناعم، ويسرع إلى قبة الماء، وهي (في وسط الصحن) وهي صغيرة مثمنة، من رخام عجيب، محكم الإلصاق، قائمة على أربع سوار من الرخام الناصع. وتحتها شباك حديد في وسطه أنبوب نحاسي، يمج الماء إلى علو، فيرتفع ثم ينثني كأنه قضيب (لجين) وقد زينت جوانبها بالمصابيح ومصلٍ يبتغي جماعة فلا يلبث حتى يجدها فيقوم في الصف خاشعاً، يشغله جلال الله الذي يقف بين يديه، عن الدنيا التي خلفها وراء ظهره. . .
وجالس إلى حلقة من هذه الحلقات الكثيرة يستمع إلى محدث أو فقيه أو واعظ، أو ينصت لقارئ، أو يذكر الله مع الذاكرين، أو مستند إلى اسطوانة من الأساطين، أو محتب تحت رواق من الأروقة، يقرأ في مصحف، أو ينظر في كتاب، أو يسبح على أصابعه، أو يتفكر في شأن من الشئون، أو ينتظر الصلاة فينعم بجمال المسجد، ورقة النسيم، ويكون من انتظاره الصلاة كأنه في صلاة. . .
وكان حيال قبة زين العابدين (قبة الساعات) في شرقي المسجد، رجل رث الثياب، ما عليه