للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من غرائب النسيان. . .!]

للدكتور أحمد فؤاد الأهوساني

كنا جماعة نتحدث في شتى الشئون، فأطلعنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن على كتاب فرنسي طبع حديثاً نقل فيه صاحبه مقتطفات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية، وكانت إحدى هذه القصائد بعنوان (تحت الشراع) للأستاذ عبد الغني ترجمها الناقل عن مجلة (الرسالة) عام ١٩٤٠. وتتبعنا الشعر الفرنسي محاولين رده إلى أصله العربي فعجزنا، وهنا طلبنا من صاحب الشعر - أي الأستاذ عبد الغني - أن ينشد شعره الذي نظمه، فأجاب: لقد نسيت! قلنا: ألا تذكر مطلع القصيدة؟ قال: لا. قلنا: ولا بيتاً واحداً؟ قال: لا. وهنا بلغ منا العجب مبلغه. . . كيف ينسى صاحب الشيء شيئه هذا النسيان الغريب!

ومن المعروف أن كثيراً من الشعراء يحفظون شعر أنفسهم ولا ينسونه وينشدونه في المناسبات. ومن هؤلاء على سبيل المثال صديقنا الشاعر غنيم. غير أن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: لماذا ينسى المرء أعماله وآثاره، وبمعنى آخر: لماذا ينسى نفسه؟!

قلت في تعليل ذلك - وسكت الأستاذ عبد الغني عند هذا التعليل دون تعليق -: أن الشاعر شخص مبدع خالق مبتكر قبل كل شئ، مثله في ذلك مثل الفنان الذي يبدع آثاراً فنية، كالتماثيل التي يصنعها النحات، أو اللوحات الزيتية التي يرسمها المصور، والشعر كالتمثال أو اللوحة الزيتية، يتركب من شيئين: من المعنى الحائر في الذهن، أو الفكرة المبتدعة في صفحة الخيال، ومن مادة يصوغ منها الفنان هذه الفكرة؛ فمادة التمثال الرخام أو النحاس، ومادة اللوحة الألوان، ومادة الشعر الألفاظ. وكثيراً ما يسخط الفنان على عمله فلا يرضى عنه، وعندئذ يحطم النحات تمثاله ويكسره ويأبى أن يظهره، أو يمحو المصور لوحته، وقد يتركها دون أن يتمها، أو يأبى وضع اسمه عليها. تعرفت بمصور في مدينة المنصورة كان يشتغل مدرساً بها، اسمه الأستاذ حلمي، ثم طلبت منه صورة زيتية من ريشته أحتفظ بها تذكاراً لصداقته، فأحضر لي صورة تمثل منظراً ريفياً على شاطئ النيل، ولم تكن ممهورة باسمه، فقلت له: ضع عليها خاتمك، فرفض. ولم أثقل عليه، لأني فهمت ما يقصد: الصورة أعجبتني، ولكنها لم تعجبه، ولو أنه صانعها!

فإذا كان الأستاذ عبد الغني قد نسي شعره، فذلك لأنه فنان يسخط على ما يفعل، ولا يرضى

<<  <  ج:
ص:  >  >>