عما يبدع، إذ يتطلع دائماً إلى الكمال والترقي. ولو رضى الناس عن أعمالهم ما تقدموا. وأكبر الظن أن الصورة الشعرية تكون في الذهن بالغة غاية الروعة ونهاية الكمال، غير أن تحقيقها في المادة، وصياغتها في أثواب من الألفاظ هو سر نقصها. والمادة هي علة النقص في الموجود.
وأذكر حادثة أخرى من نوع آخر:
ركبت المترو من عماد الدين، حتى إذا بلغت مصر الجديدة في إحدى محطاتها المتوسطة، سألني أحد الركاب - وكان يجلس أمامي - هل هذه الحافظة لك؟ فنظرت إلى جانبي فرأيت مكان الراكب الذي كان إلى جواري خالياً، ورأيت حافظة نقود ليست حافظتي. قلت: أنها ملك الراكب الذي نزل! وهنا سألت نفسي: ما شكله؟ هل هو شاب أو شيخ؟ هل هو هزيل أو بدين؟ هل هو أسمر أو أبيض؟ كل ذلك لم أذكر منه شيئاً كان أحداً لم يجلس إلى جانبي. ثم تناولنا الحافظة وفتحناها ووجدنا فيها أوراقاً باسم (عماد). وبدا لي أن أنادي هذا الاسم لعل صاحبه يستجيب، فقلت: عماد. . . والتفت شاب أوشك أن ينصرف في أعماق الشارع، ولوحت له بالحافظة فأدرك المقصود، وعاد مسرعاً وأخذها شاكراً. هنا فقط تذكرت، أو على الأصح تعرفت عليه، وبأن لي أنني تأملت هذا الشخص حين كان إلى جواري، إذ كان يقرأ كتاباً باللغة الإنجليزية فيه أشكال رياضية، واستنتجت عند ذلك أنه طالب في كلية الهندسة أو كلية العلوم، وكان يلبس بنطلوناً وقميصاً فقط. ثم سألت الراكبين: هل يذكر أحدهم هذا الشخص؟ فقالوا جميعاً: لا. قلت في نفسي: لو أن هذا الشخص ارتكب حادثة أو جناية، ولم تكتشف إلا فيما بعد، ثم طلبنا البوليس إلى الإدلاء بالشهادة فماذا كنا نجيب؟ ثلاثة رجال لا يتذكرون شيئاً عن شخص رابع ظل يجلس معهم نصف ساعة على الأقل، ووقعت أبصارهم عليه، وشاهدوه، ثم ينسون كل شيء عنه. . . هذا أمر عجيب! والأغرب من ذلك اتفاق الثلاثة على هذا النسيان! اللهم أن شهادة الشهود في المحاكم أمر مشكوك فيه، ويجب على القضاة أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق النفسية الثابتة بالخبرة والتجربة!
لا أملك الحديث عن زملائي الآخرين، ولكني أعرف نفسي. فأنا حقيقة كثير النسيان، وعلى الخصوص فيما يتصل بأسماء الأشخاص. وهذه مسألة تحدث لي كثيراً من الخجل