كنا في ساعة من تلك الساعات الجميلة التي تتكاشف فيها الأذهان، وتتصافى فيها العقول، وتنطلق فيها الخواطر؛ والتي تدخرها الذاكرة بين أطوائها، لتكون ذخيرة من السعادة، تستمدها النفس في أيام الشقاء، وتنعم باستحضارها كلما طغت عليها الآلام، وحزبتها الأيام. وكنا نتدارس في تلك الساعة طرفاً من علم اللغات المقارن، مما يتعلق بعلامات الإعراب، ومكانها في مختلف اللغات، وأنها سمة من سمات اللغات البادية: كاللاتينية القديمة، واليونانية الأولى. وما بقاؤها في اللغة العربية الشريفة، وقد جازت دور البداوة، وشاركت في بناء الحضارة، وأعرقت في ذلك إعراقاً، إلا مظهر من مظاهر القداسة التي أسبغها القرآن الكريم عليها، بنزوله بها. والقرآن خالد خلود النفس: لا تبديل لكلمه، ولا تغيير في نظمه، ولا تحوير لوضعه؛ وكذلك اللغة العربية التي ارتبط كيانها بكيانه، وأخذت مكانها من مكانه. فهذه العلامات الإعرابية هي في حقيقة وضعها ومرد أمرها، مظهر من مظاهر البداوة الإنسانية في دور من أدوارها.
ولقد تنزل هذا الرأي من عقولنا ومشاعرنا منازل متفاوتة، فمنا من مال إليه وأخذ به لطرافته، ومنا من أنكره لغرابته، إلى غير ذلك من الحالات المختلفة باختلاف المزاج العقلي، ولكنه لم يلبث أن أثار في أنفسنا طائفة من الخواطر متعارضة، فلم يلبث ذلك المجلس الهادئ القار الرزين أن تحول عن هدوئه، حين انطلقت تلك الخواطر متدافعة متضاربة. . . فماج الجو من حولنا وثار، وطال الجدل واشتد. . . وقد اختلفت أساليب المحاجة، وتشعبت طرائق القول وأفانينه، على ما يقع في الخاطر، وعلى ما توحي به المناقشة.
ولكن أحدنا، وكان في معارضة الرأي منذ بدا، وكأنما كان يدخر - لحاجة في نفسه - هذا الوجه الأخير من المعارضة، أخذ يقول: (كيف يستقيم هذا الرأي لكم، وكيف يصح في الاعتبار العلمي، إذا كان بين يدينا ما يأتي بنيانه من القواعد؟ أنسيتم أن اللغة الألمانية من اللغات المعربة التي تلتزم الإعراب التزاماً لا هوادة فيه ولا تسامح في قواعده؟ إذن،