في حياة الأمم - كما في حياة الأفراد - فترات خاصة، ترتفع فيها على نفسها، وتسمو فيها على مألوفها فتأتي بالخوارق والمعجزات، حتى لتتأمل فيما بعد ما أتمته في هذه الفترات الصغيرة، وما قامت به في تلك الآماد القصيرة، فلا تكاد تصدق، ولا تدري كيف تأتى لها أن تأتي بذلك العجب العجاب!
هذه الفترات الخاصة هي التي ترتفع فيها الجماعات - كما يرتفع فيها الأفراد - إلى ما هو أعلى من الحياة اليومية، ومن المطالب العادية. وتتطلع إلى غايات عليا لا تتعلق بحياة فرد أو جيل، ولا تقف عند رغبة شخص، ولا أنانية فرد.
وفي هذه الفترات يجد الفرد لذته الكبرى في أن يضحي بلذائده. وغايته الأولى في أن ينسى غاياته. وتنبثق من الجماعة حينئذ إشعاعات وطاقات عجيبة؛ تتخطى اللذائذ والغايات المنظورة إلى لذائذ وغايات أخرى غير منظورة؛ قد لا تستطيع تحديدها تماماً، ولا فهمها نصاً. ولكنها تساق إليها سوقاً بدوافع خفية كامنة فيدو كأنما الكل أبطال في وقت من الأوقات.
هذه الفترات هي التي تسمع فيها الجماعات والأفراد صوت الحياة الأزلية، وتصغي فيها إلى إرادة الحياة الأبدية، فتخفت حينئذ أصوات الرغائب الفردية، وتنطوي رغبات الأفراد الزائلة فتندفع الحياة دفعة كبرى إلى الأمام؛ وتدخر بعد هذه الدفعة رصيداً تنفق منه في خطواتها التالية، حتى إذا نفد ذلك الرصيد بطؤت خطاها، وتراخت قواها، وصحت الجماعة من تلك النشوة تتلفت إلى ذاتها، وتحصر نفسها في نطاقها، وتطلع كل فرد إلى شخصه، وصحت رغائبه ولذائذه، وتفككت روابط الجماعة وعادت أفرادا وأنانيات، وصغرت قيم الحياة العليا، وأنكمش المد الزاخر، وانطوى كل فرد على ذاته، يعبدها، ويملقها، ولا يرى أبعد منها شيئاً، إلى أن تنقضي الدورة، وتزهد الجماعة في هذه الحياة الرخيصة، وتتطلع من جديد إلى آفاق أعلى، وتكون قد ذخرت من الرصيد ما يكفي للوثبة فتفعلها.
والملاحظ في هذه الدورات والفورات، اتفاق يبعده التواتر عن أن يكون مجرد مصادفة.