للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[من وراء حجاب]

للأستاذ محمود محمد شاكر

أخي الأستاذ الزيات:

السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فقد أكرمتني ودعوتني لكتابة مقالتي لعدد الهجرة من الرسالة، فجعلتُ أماطل الساعات كعادتي حتى تضطرّني إلى مأزق أجد عنده مفراً من حمل القلم، والانكباب على الورق، وترك الزمن يعدو عليَّ وأنا قارٌّ في مكان لا يتغير وزمان لا يتحول. فلما قارب الوقت وأزفت الساعة، فزعت إلى ذلك الكتاب القديم الذي طال عهد (الرسالة) به، وهو (مذكرات عمر بن أبي ربيعة)، حملت الكتاب حريصاً عليه، ووضعته على المكتب بين يدي، وترفقت بصفحاته وأنا أقلبه كما يقلب العاشق المهجور تاريخاً مضى من آلام قلبه. ووقعت على ورقة حائلة اللون قد تخرّمها البِلى، وإذا فيها هذه الأبيات الثلاثة، لم ينل منها شيء، لا تزال ظاهرة السواد بينة المقاطع:

(فصروف الدهر في أطْباقه ... خِلْفَةٌ فيها ارتفاع وانحدارُ

بينما الناس على عليائها ... إذ هوَوْا في هوَّة منها فغاروا

إنما نعمة قوم مُتْعة ... وحياة المرء ثوب مستعارُ).

لم أدرِ لِمَ نقل (عمر بن أبي ربيعة) هذه الأبيات في مذكراته، فإنها قائمة وحدها ليس قبلها ولا بعدها شيء يدل على ما أراد من ذكرها، فجعلت أدوار الأوراق لعلي أبلغ مبلغاً من توُّهم خبرها الذي سيقت من أجله، وجعل معناها يداور قلبي ويساوره حتى كفَّت يدي عن الحركة، وسكن بصري على مكانها، وأحسست كأن القدر قد نام في ظلالها كالمارد الثمل طرحه طغيان السكر حيث استقر، وأطاف بنفسي جو من السكون والرهبة والجلال، وأخذت أستغرق في تأمل هذه الحياة المتكررة المتطاولة الدائبة، منذ عهد أبينا الشيخ آدم رحمه الله إلى يوم الناس هذا. فآنست فترة تأخذني، ثم نعسة تنعشاني، وسبحت في غمرة طويلة لذيذة لا عهد لي بمثلها منذ عَقَلتُ.

وإذا أنا أفضي من غمرتي إلى ميدان فسيح أخضر الجوانب متراحب الأرجاء، وإذا مسجد بعيد يستقبلني كأحسن ما رأيت من مسجد بناءً وبهاءً، قد تباعدت أركانه وتسامت في جو السماء مآذنه، ويبرق بابه ويتلألأ شعاع الشمس عليه. فقصدت قصده، ولم أكد أدنو حتى

<<  <  ج:
ص:  >  >>