للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

القَصَصُ

حلم ساعة

للأستاذ نجيب محفوظ

من عجيب الأمور أننا قد نحيا الحياة سعيدة نخالها طويلة في حلم قصير الأجل. وما تعتم أن تطرق اليقظة مغلق الأجفان، فينتقل النائم من عالم الأحلام المخدرة إلى دنيا حقائق شديدة الجفاء، وما يجد يده قابضة إلا على هواء. على هذا المثال مضى ذلك اليوم من حياته، كان يوماً أو بعض يوم، ولكن قلبه ذاق فيه سعادة وغبطة، وحَلق في آفاق بعيدة من أحلام المنى، وخفق خفقة فرح سماوي جاز به عالم الزمان والمكان. ثم أدركته يقظة منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد، على نحو بالغ في القسوة والوحشية. . . كيف كان ذلك؟!. . .

كان اليوم السعيد يوم الخميس، وكان الأستاذ بهاء الدين علما عائداً من سماع محاضرة علمية في الجمعية الجغرافية الملكية عن الغدد الصماء؛ وكان يسير في ميدان الإسماعيلية متفكراً في يتلك الأدوات الإنسانية العجيبة المسيطرة على الفرد أيما تسطير، وكيف يزعم العلماء أنهم بالتحكم في إفرازاتها يستطيعون أن يحولوا الطيب إلى شرير، والشرير إلى طيب، والشاعر إلى رياضي، والرياضي إلى شاعر. وكيف يفسرون أخيلة جيتة وأحلام شيلي بعصاراتها المتدفقة في الدم؟. . . وكان رأسه لا يكاد يخلو من أمثال هذه الأفكار، فهي مادة عمله ومادة حياته معاً. وفي الواقع يندر أن تجد بين الشباب المعيدين بكلية العلوم من يناظر الأستاذ بهاء الدين في حبه العلم وحرصه على تحصيله

وكأنما أرهقه القعود والسكون - في أثناء إلقاء المحاضرة - فأحس بارتياح إلى المشي واعتزم السير على قدميه إلى شارع فؤاد الأول، واتجه إلى شارع قصر النيل في خطى وئيدة يدخن لفافة من التبغ ويجتر أفكاره وتأملاته في لذة ويسر، وصادف بلوغه مدخل المكتبة الفرنسية بروز فتاة منها تندفع فيما يشبه العدو، فتوقف بحذر ووجل وتراجع خطوة على عجل، وتوقفت مثله وتراجعت، والتفت نحوها فرآها ترمقه بنظرة ارتباك واعتذار ثم مضت في سبيلها حتى إذا ما حاذته عطفت رأسها إليه بغتة وقد بدا على وجهها التساؤل والحيرة وكأنها تحاول تذكرة ولا تدري كيف، ثم أدركت ما في نظرها إليه هكذا من

<<  <  ج:
ص:  >  >>