للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[عبر من سيرة]

للأستاذ عباس محمود العقاد

(بدرفسكي) موسيقي عظيم وإنسان عظيم، وليس الموسيقى ببالغ أوج العظمة في فنه حتى أوج العظمة الإنسانية في أفق من آفاقها العليا، وإن خيل إلى الأكثرين منا أن الموسيقى طرب، وأن الطرب لهو، وأن اللهو والعظمة لا يتفقان

كان (بدرفسكي) عظيماً لأنه كان أكبر من جميع تلك الأشياء التي يتصاغر لها الناس: كان أكبر من المال ومن المنصب ومن الأثرة ومن المتعة الرخيصة، وكاد أن يكبر على غواية الفن لولا أنه من الفن قد استمد الكبرياء والعظمة، فلا يهجره فترة يسيرة إلا بقوة منه، كما يهجر المرء حياته أحياناً بقوة من دوافع تلك الحياة

وللعظمة مقاييس شتى

وبدرفسكي عظيم بأكثر من مقياس واحد: عظيم بهذا الذي ذكرناه، وعظيم بإعطائه كل شيء حقه على قدر لا يستطيعه أوساط الناس، وعظيم لأنه قادر على العمل العظيم في غير ناحية واحدة. فلم ينحصر في موسيقاه ولا في دعوته الوطنية ولا في غزواته السياسية، ولم يجاوز في كل عمل من هذه الأعمال الكبار حده المقدور

أبلغ العالم شكاة أمته بصوت الموسيقى، فكان داعية فن وداعية وطن. ثم ترك المناصب ليثوب إلى فنه بعد أن صنع ما كان في وسعه أن يصنع، ولم يبق من سب لبقائه في مناصب الدولة إلا التعلق بها والاستخذاء لغوايتها، وليس هو بالذي يتعلق بهذه الفتنة أو يستخذى لهذه الغواية

وجمع الذهب: أكداس الذهب، ثم فرق في خدمة القضية البولونية ما لو احتفظ به لكان أغنى من ملوك المال وأقدر من حكام الأمم

واشتدت به العصبية الوطنية غاية اشتدادها، ولكنه حين وهي الجوائز للنابغين في ضروب الموسيقى وهبها عالمية لكل مجيد وكل مأمول من أبناء القارة الجديدة

ففيه لكل من الوطن والعالم والغنى نصيب بمقدار، وبين يديه هو ميزان ذلك المقدار

ومقياس آخر من مقاييس العظمة فيه أنه جند جيشاً وساس دولة ووجه الدول الأخريات توجيهاً لم يحلم به حالم من أبناء وطنه، ولكنه لم يكن من الحالمين وهو أجدر أبناء بولونيا

<<  <  ج:
ص:  >  >>