ومن يدري ماذا كان يجري في القارة الأوربية لو استمع أبناء قومه لنصحه واتبعوا هداه في العلاقة بينهم وبين جيرتهم من الروس. . . فلعل الذي كان يجري يومئذ غير الذي جرى الآن، وخير مما جرى أو سيجري بعد الآن!
بدرفسكي رجل عظيم لأنه موسيقي عظيم
وهذا شيء ينبغي أن نفهمه نحن الشرقيين خاصة لأننا أحوج إلى فهمه من جملة العالمين
نحن الشرقيين لا نفهم ما الدنيا وما الحياة في الدنيا حتى نفهم ما التعبير عن الحياة، ونفهم أن الفنون أرفع وأجمل ما وهب الإنسان من وسائل التعبير عن حياته بل عن حياتيه: الحياة الظاهرة التي لا خفاء بها، والحياة الباطنة التي ما خلت قط ولن تخلو يوماً من خفاء
فليست الأصداء الموسيقية لغواً من لغو البطالة، ولا هي بذيل من ذيول الفراش أو ذيول السرير، ولا هي بتسلية للأذن تستطيبها كما يستطاب السجع الموزون والرنين المنغوم
كلا. ليست الأصداء الموسيقية كذلك، وليست الحياة شيئاً إن كانت الأصداء الموسيقية كذلك
نعم ليست الحياة شيئاً إن لم يكن لها تعبير، وليست هي شيئاً إن كان كل التعبير عنها لغواً أو تسلية أو متعة فراش
ومن السهل أن تزدري الرجل الذي يبتذل فنه لشهوة غيره، وليس من السهل أن تزدري الرجل الذي يعبر لك عن حياتك ويفتح لك من مغالقها ما عسى أن يحتجب عنك؛ فإنما هو واهب حياة وليس بواهب شهوة أو تسلية أو فضول
لهذا يلتقي الموسيقي العظيم والرجل العظيم في إنسان واحد. ولهذا نحسب بدرفسكي آية من آيات عصره، لأنه استرعى النظرة الجدية منهم حين أسندوا إليه رياسة الوزارة في قومه. وما كانت رياسة الوزارة علواً يرتفع إليه بعد أن رفعته العبقرية، ولا صوتاً مسموعاً في جانب من جوانب الأرض بعد أن سمع صوته في كل جانب منها، وإنما كانت ولاية الموسيقى لرياسة الوزارة دليلاً على النظرة الجدية التي ينظرون بها إلى فنه، أو ينظرون بها إلى الحياة والتعبير عن الحياة
ولو سئل أحد لم يكن بدرفسكي رجلاً عظيماً لما خطر له أن يقول: إنه كان عظيما لأنه تولى رياسة الوزارة البولونية في عهد من العهود، ولكنه يقول إنه كان عظيما لأنه كان