يتنقل الإنسان في حياته من مكان إلى آخر، ويترك قوما ليحل بين قوم، وفق ما تتطلبه شواغل الحياة. وهو في كل ناحية يقطن بها حينا من الدهر، يتخذ لنفسه أصدقاء يقاسمهم الود ويخلص لهم النصح، وقد يبسط لهم جناح المعونة إن وفقه الله إلى معروف، ثم تمضي الأيام فيجد نفسه مضطرا إلى فراق زملائه ليستأنف عملا جديدا في مكان آخر، فيودعهم ويودعونه حاملا بين أطواء نفسه من الذكريات الطيبة ما يلذ له أن يستعيده بين الفينة والفينة، والإنسان أقوى الحيوانات جميعها على التذكر والاستعادة، فجميع الحيوانات - غيره - تنسى ما يعترضها في الحياة بعد انقضائه بأيام أو أسابيع، أما الإنسان وحده فيحتفظ في مخيلته بذكريات يرجع بها إلى الطفولة والمراهقة مهما امتدت به السن في طريق الحياة فيستطيع أن يسرد لغيره أنباء طال عليها العهد، ولكنها لم تفقد مرآتها الواضحة في خاطره، وقد يسبح به تفكيره فيتمثل إخوانا شاطرهم الود، ولقي منهم المعروف، فيحن إلى ما تقدم من عهودهم الماضية، ثم يدفع به الحنين إلى مراسلتهم والوقوف على أنبائهم، وفي المراسلة تثبيت للمودة على البعد، وتقوية للمحبة على النزوح، فهي تقرب الشاسع، وتقضي مسألة النائي. نظرة فاحصة إلى ما خلفه الأدب العربي في تراثه الثمين من الرسائل الإخوانية تريك العجب العجيب، فقد ازدحمت الموسوعات الأدبية بتحف خالدة من الرسائل، وهي فوق مكانتها العالية في البلاغة والمنطق، تدل على الشعور الطيب الذي حفز أصحابها لتسطيرها وإنشائها، وتنبئ عما منحوه من إخلاص في الحب، وصدق في الوفاء، وإخلاص المرء وسام ناصع يتزين به، فهو الدليل المقنع على مروءته ونبله، كما يبرز للناس معدنه الحقيقي دون بهرجة وتزييف!!
ونحن في عصرنا الحاضر نغرق في أعمالنا المادية إلى آذاننا، ونستهلك أوقاتنا جميعها فيما نأمل منه النفع والكسب، فلا يجد الكثيرون وقتا صافيا للمراسلة في زعمهم. وقد يتطوع بعض من جبلوا على الوفاء والبر، بالسؤال عن أصحابه، فيسطر الصحيفة المخلصة إلى من يصطفيه، وتمضي الأيام فلا يجد ردا يسعفه بأنباء صاحبه، فيسطر رسالة