أخرى مبقيا على ما يدخره من محبة وود، فيأبى الرد أن يعود إليه أيضا!! وأنت تعجب حين تسمع من يرددون هذه الشكوى في أسف وحيرة، بل إن العجب ليبلغ منك أقصاه حين تقابل في الطريق من بعثت إليه رسائلك، فيخبرك أنه حظي بقراءتها، وأنس بلقائها، غير أن ظروفه الخاصة لم تمكنه من الرد السريع!! وكأنه لا يجد خمس دقائق يسطر فيها فوق قرطاسه ما يحتمه الواجب الملزم، وإذا كان من الأمور المخجلة أن تحيي زميلك في الطريق تحية عابرة، فلا يرد عليها أجمل رد، فكيف بمن تتذكره على البعد؟ فتسطر إليه أنباءك وتسأله عن أنبائه ثم لا تظفر بعد ذلك بخطاب مريح!!
هذه مشكلة خلقية أليمة. تدل دلالة واضحة على ما يغمرنا من تدابر وتقاطع، وتنبئ عما ينقصنا من يقظة ووعي، وهي كجميع مشاكلنا الاجتماعية ناجمة عن إهمال التعليم الخلقي في محيطنا الشعبي، فنحن في معاملاتنا الشخصية لا نتقيد بحدود واضحة المعالم، بينة الصوى، فندرس الأخلاق دراسة عملية، ونطبقها تطبيقا ملزما واعيا، بل نتقيد بقشور تافهة نقرأها ولا ننقدها في أكثر الأحيان، وأقول - في صراحة - أنه ليست لدينا حدود خلقية، تلقن في المدارس، وتذاع في الصحف، وتتناقل بين الناس، ولكننا نطبع علاقاتنا الاجتماعية بطابع التقليد والمحاكاة، فالصغير يقلد الكبير، والمتأخر يحاكي المتقدم، إذ يعيش معه في محيط واحد، ولا عليه إذا أخطأ بعد ذلك، فقد وقع في الخطأ من يفوقه ويكبره! وحسبك أن تكون زلة الكبير دفاعا ملجما يتقدم به الصغير، وحال كهذه الحال يجب أن تزعزعها العواصف الهوج.
وواضح أن البريد في عهدنا الحاضر قد قطع أبعد أشواطه في ميدان السرعة، حتى ليمكن الإنسان أن يراسل أخاه وراء الأميال الشاسعة. والمسافات القاصية، فتصله الرسالة في اليوم الذي كتبت فيه بأجر لا يقوم له اعتبار، فلم لا نستغل هذه الأداة الطيعة في توثيق العلائق وتقوية الروابط بمجتمع مفكك متدابر. وليت شعري كيف نكون لو تقدم بنا الزمن قرونا عدة، فرأينا العهد الذي يقطع فيه البريد شهورا وأسابيع حتى يقع في متناول صاحبه البعيد، وقد تجد أثناء هذه المدة ظروف تقلب أنباء الرسالة وصاحبها رأساً على عقب، والمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، فإذا قطع صلته الأخوية، بمن أنس إليهم حينا من الدهر، وسعد بلقائهم فترة طويلة، فسيخسر الشيء الجليل. وكثيراً ما أقع في حيرة مخجلة حين