(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- ٧ -
في هورتون:
على مسافة سبعة عشر ميلا من لندن كانت تقع قرية هورتون الصغيرة الجميلة، حيث اشترى الموثق جون ملتن بعض الأرض وأقام بيتاً ليأوي إليه إذا اعتزل العمل وجنح للراحة.
وكانت هورتون قرية هادئة تحيط بها المروج والمراعي، والحقول بين ضيقة محصورة وواسعة منبسطة، والغابات والخمائل عن يمين وشمال، تتراءى بينها عن بعد أبراج وندسور، تلك القلعة العالية القديمة فيتألف من مجموعها مجتلى ساحر جميل تستريح النفس لمرآه، ويسعه البصر من أوله إلى منتهاه.
وأتخذ ملتن طريقه إلى هورتون، تاركا وراء ظهره الكلية ومن فيها من ثقلاء وظرفاء، ومن أولى الغلظة والعنت من العرفاء، ومن المتبجحين بالعلم من الأغبياء، مبتعداً عن دروسها ومناظراتها، وقد نفض قدميه من ثراها ويديه من كتبها.
وأوى الفتى إلى هورتون لا ليقضي بين ربوعها أياماً معدودات ثم يعود إلى لندن، ولكن ليقيم فيها سنين تطول أو تقصر حسبما يشاء، فهو لا يتقيد في مقامه بشيء!
وماذا عسى أن يصنع ملتن في تلك القرية؟ وهل درس ما درس في الجامعة وحصل على درجتين من درجاتها ليركن إلى البطالة والدعة في ظلال الريف؟ ليس هذا مما ألفه الناس، ولا هو مما يجري على سنن العقل، وليس يقره عليه أحد؛ بذلك كان يحدث الموثق نفسه ويحدث أصحابه، ويتناقله بينهم من يعرفونه من الناس!