للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

شاعر عبقري

رأيت هذا الشاعر العبقري، استغفر الله، بل حظيت بشرف لقائه والاستمتاع مرة بسماع بعض درره الغوالي، وليس بالأمر الهين لقاء مثل هذا الشاعر في زمن قل فيه العباقرة، وحط فيه من قدر الشعر، حتى اعتبره بعض الناس شيئاً لا غناء فيه ولا متعة من ورائه؛ وذهبوا في ذلك إلى أنه لن تمضي سنوات معدودات، ولا يتصل الشعر بحياة هذا الزمن بسبب من الأسباب. . .

ولئن سعد جدك فمثلت ساعة مثلي بين يدي هذا الشاعر، لوقعت منه على شاب تتوزع الظنون فيه عقلك وخيالك. فإن كنت ممن يجهلون سمات العبقرية، ظللت في حيرتك ودهشتك بل لقد يذهب بك جهلك إلى أن تعزوا ما يبدوا لك منه إلى الحماقة والبله. فتلحد بذلك في الفن من حيث لا تدري إلحاداً شديداً.

والحق أني حرت في أمره برهة حين رأيته. . . فهو يطيل النظر في وجوه جلسائه في صمت عميق، فيحسبونه معهم وما هو معهم. . . ثم هو يرفع عينيه في بطء إلى السقف، ويظل كذلك برهة غير قصيرة كمن أخذته عن نفسه حال من غم أو من ذهول، على أني لم ألبث أن رددت أمره إلى ما علمت عن العباقرة، فهم كثيراً ما يذهلون عن أنفسهم بما تعرج فيه أرواحهم من معارج علوية، وكيف يكون عبقرياً ولا تسبح روحه وتعرج إلى السموات كما تسبح أرواح العباقرة وتعرج؟

ورأيت الشاعر قد أطال شعر رأسه، ثم تركه دون ترتيب، حتى تهدل على فوديه، فغطت خصلات منه أذنيه، وتدلت خصلات فوق عنقه؛ بينما تراكم بعضه على بعض، حتى كان منه ما يشبه الأكمة فوق جبينه. . . وهو لا يحرص على شيء من مظهره حرصه على أن يكون شعره هكذا كشعر أقرانه من كبار الفلاسفة ونوابغ أصحاب الفنون دليلاً في رؤوسهم لا يكذب على النبوغ، وبرهاناً لا يخطئ على الفن. وتكلم الشاعر الشاب في نبرات الشيوخ ولهجتهم، فأخذ يشكو من قلة فهم أهل زمانه لشعره وعدم تفطنهم إلى فنه، ولكنه ما لبث أن أشرقت أسارير وجهه حينما ذكره بعض من يفهمونه بأنه جاء قبل أوانه، وأنه لابد أن تعرف قيمة فنه يوم تنجاب عن العقول حجب الغفلة. . . أولم يشك المتنبي بأنه كان في

<<  <  ج:
ص:  >  >>