في الجو رائحة تفوح، رائحة شعر، إنها (أنفاس محترقة) للشاعر محمود أبو الوفا، ذلك الشاعر الذي لم نعرفه في حين، لأننا كنا في غفلة عن إدراك حقيقة الشعر في ذلك الحين! كنا نتلمس مخنوقا في ركام (الفكرة) المعتلة الجامدة، أو متقززاً في اللفتة الذهنية البراقة! وكنا نتلمسه في قلب الرواية، لأن ببغاوات كثيرة قالت لنا: إن الشعر لا يكون إلا في هذا القلب. نقلا عن الإغريق والرومان والمحدثين في أوربا! وكنا نتلمسه في وسوسة العبارة، وفي اصطناع الصورة، وفي فرنجة المشاهد، وفي صقل الإيقاعات كما لو كانت ملفوفة في أوراق (السلوفان!)
ودع عنك شعر (الصالونات) وشعر الحفلات، وشعر المناسبات. وشعر الغناء الذي يفرغه بعضهم على الناس. . . فهذه ألوان ليست في حساب النقد، ولا اعتبار لها في هذا المجال! فأما الشعر، الشعر كما هو مجرداً من القوالب والأشكال، طليقاً من ثقلة الفكر ولمعة الذهن، واصطناع المشاهد والموضوعات. . الشعر كما هو طليقاً رفافا طلاقة العطر والشذى فهو ما لم نحفل به كثيراً
ولقد كتبت قبل سنوات أربع تحت عنوان:(آن للشعر أن يكون غناء) في فصل من فصول كتاب: (النقد الأدبي: أصوله ومناهجج) أصور حقيقة الشعر وطبيعته في هذه الفقرات: (. . . إنه الغناء، الغناء المطلق بما في النفس من مشاعر وأحاسيس وانفعالات، حين ترتفع هذه المشاعر والأحاسيس عن الحياة العادية، وحين تصل هذه الانفعالات إلى درجة التوهج والإشراق، أو الرقرقة والانسياب على نحو من الأنحاء)
(ولسائل أن يسأل: أو تنفى الفكر من عالم الشعر أيضا؟ ولست أتردد في الإجابة. إن هذا الفكر لا يجوز أن يدخل هذا العالم إلا مقنعا غي سافر، ملفعا بالمشاعر والتصورات والظلال، ذائبا في وهج الحس والانفعال، أو موشي بالسبحات والسرحات!. . ليس له أن يلج هذا عالم ساكنا باردا مجردا! (ولحسن الحظ أن الإنسانية لا تزال تحمل هذه الشعلة المقدسة، ولا يزال ضميرها يزخر بالمشاعر والخواطر، ولا تزال تهتدي بالغريزة والإلهام