كان شتاء هذا العام في القاهرة موسماً عامراً بالمتعة الفنية التي تنتقل إليها.
شوهد فيه معرض التماثيل الفرنسية، وشوهد فيه معرض بل معارض شتى للصور المصرية، وشوهد فيه تمثيل فرقة من أحسن الفرق الإنجليزية لروايات من أحسن الروايات القديمة والحديثة، وشوهد فيه أو سمع فيه شريط شامل لأغاني الموسيقار العظيم جوهان شتراوس، الذي يقال بحق إنه أرقص الكرة الأرضية في مدارها؛ إذ لم يبق في المغرب ولا في المشرق إنسان يرقص على الأنغام الفنية المهذبة إلا وقد رقص على أنغام جوهان شتراوس.
عازف عظيم تفيض ألحانه بالمرح والطرب والشباب والحياة. بلغ مبلغ القادة أصحاب الفرق وهو في الحادية والعشرين، وعزف للملوك والملكات فغلبهم على وقار العرف، ووقار العرش، ووقار السن، في كثير من الأحيان. وما في التاسعة والأربعين عن مئات من أدوار الرقص على اختلافه، وخرج من العاصمة الإنجليزية قبيل موته في أسطول من الزوارق التي تحييه بالغناء والهتاف. . . وأوصى بعد كل هذا النجاح وكل هذا الطرب وكل هذا السرور الذي أمتع به الناس. فبماذا أوصى؟
بأعجب ما يخطر على بال. . . أوصى ألا يتعلم أبناؤه الصناعة الموسيقية أبداً، وأن يختاروا ما شاءوا من الصناعات إلا صناعة أبيهم. . . فأنبأنا بذلك نبأ ليس بالجديد، وإن كان لنسيان الناس إياه قد يحسب من الجديد الغريب: ذلك أن حياة الفن حياة فداء لأنها حياة فتوح. فما من فنان عبقري إلا وهو فاتح بمعنى من معاني الفتح والجهاد؛ وكل جهاد فداء، وكل فداء فيه ألم محقق، وللنصر بعده سرور مشكوك فيه، لأنه سرور يتمناه من قد حرمه من النظارة المتفرجين. . . أما صاحبه فقلما يحسه من قريب.
على أن أبناءه قد خيبوا حنانه وإن لم يخيبوا ظنه، فقد نشأوا جميعاً موسيقيين ناجحين مشهورين، وأوشكت إعمالهم أن تلتبس بأعمال أبيهم، ولم نسمع أن أحداً منهم أوصى بمثل وصيته في ساعة الوفاة، ولم نسمع بأعقاب لهم في عالم العزف والغناء!
كانت الليلة التي قضيناها في سماع (شتراوس) من ليالي الفن النادرة؛ وكانت دار الصور