بين ضفاف النيل ورمال الصحراء في بلدة أخيم بمديرية جرجا من أعمال صعيد مصر، ولد أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري سنة ١٨٠ بعد الهجرة، وكان أبوه نوبيا جئ به من بلاد النوبة رقيقا ثم اعتق. ونشأ ذو النون تهب عليه نسائم النيل الرطبة، وتلفح وجهه رياح الصحراء الجافة، كلاهما تحمل أسرارا غامضة وتوحي بعظمة الكون وخالقه، وبين قوم محدودي المعارف ضيق أفق التفكير، قضي أيام صباه.
فلما شب عن الطوق اتسعت مداركه، ضاقت نفسه الكبيرة بهذا الجو الخانف المحدود، فلم يجد سوى الخرائب المصرية يطوف بينها من بلدة إلى أخرى يدرس رموزها ويحاول حلها والوصول إلى أسرها - وقد كان هذه الطواف المحدود عاملا من عوامل حبه التنقل بين بلدان العالم الإسلامي سعيا وراء بحثه عن الحقيقة ودراسته الصوفيه - ولما لم يجد بين هذه الخرائب ما يشفى عليل نفسه، راح ينشد الهداية في جوانب الصحراء الواسعة عله يصل إلى طلبته من المعرفة والعلم. وفيما هو في حيرته، سمع بسعدون الصوفي المصري، فذهب إليه وسمع منه فسحره بحديثه وأشرب قلبه محبته؛ فلقد وجد بعد العناء والتعب بغية نفسه وأمله المفقود، وتتلمذ عليه، ودرس الصوفية على يديه، وسرعان ما أعجب الأستاذ بفصاحة تلميذه فقربه إليه وآثره بصحبته. وبجانب توفره على دراسة الصوفية كان يدرس الطب والكيمياء وعلوم السحر.
وذات يوم عاد إلى أخيم فوصلها ليلا وسمع دفوفا تضربومشاهد قوما يلهون، فسأل ما هذا؟ فقيل له عرس. ثم سار قليلا فسمع نواحا ورأى نسوة يندبن، فسأل ما هذا فقيل له فلان مات. فقال: أعضي أولئك فما شكروا، وابتلى هؤلاء فما صبروا. لله على ألا أبيت بهذا البلد. وانطلق لا يلوى على شئ، ترفعه رابية ويخفضه واد، هائما ينشد المعرفة ويبغي الوصول، حتى بلغ بيت الله الحرام وزار القبر الشريف، ثم تابع سيره إلى دمشق وزار كثيرا من النساك المقيمين في جنوب إنطاكيا، وسألهم وسمع منهم. قال (زرت في لبنان رجلا نحيفا ضعيفا يصلي. فسلمت فرد السلام وما زال في ركوع وسجود حتى صلى