قضيت شهر رمضان المعظم هذا العام - إلا أقله - في عزلة عن الحياة، أتقرب بالعزلة إلى الله، وأبتهل إليه وأبتغي رضاه، فكنت أقضي النهار صياماً، والليل قياماً، وألزمت نفسي ألا تنطق إلا لماماً، وألا تقارف آثاماً، وألا تقول إلا سلاماً، والتزمت هذه الحال ثمانياً وعشرين من الليال. . .
ولما أوشك رمضان الكريم على النهاية، وأشرف على الغاية، حدثتني النفس الأمارة بالسوء، التواقة دائماً إلى ما يسوء، أن أنفلت من هذا العقال، وأتحلل من تلك الأغلال، وأسعد نفسي بالأنس بين الصحاب، والسمر بين الأحباب، وأنقل وإياهم الحديث في العلوم والآداب، فذلك عندي وعندهم أشهى الرغاب، وما خضنا علم الله يوماً في حديث نم أو اغتياب، ولا ذكرنا وقاك الله حديث أعراض ولا أنساب. . .
قصدت إلى تلك الصومعة الجميلة، والظلة الظليلة، صومعة الأدب والأدباء، ومثوى الشعر والشعراء، تلك التي أنشأها مقام الأستاذ الزيات بالمنصورة الحبيبة حينا من الدهر، كان والله في مثل عمر الزهر، وكان - وحقك - عهداً ما برحت نشوته في الفؤاد، وما زال برده في الأكباد، وما فتئ حديثه هو الحديث المعاد، ليته بقي ودام، إلى هاتيك الأيام. . .
وفي جوار تلك (الكافورة الحسناء) الكاملة البهاء، الحانية على النيل الجميل كأنها الرحمة والعطف والمحبة تهبط من السماء، تلك التي خلدها الزيات بآيات من السحر، ما هي من نثر، ولا هي من شعر، ولكنها من الدر والتبر، في جوارها أخذت مكاني، وآثرت الجلوس منتظراً إخواني، وطال بي المكث والانتظار، وما وافاني منهم ديار، ولا نافخ نار، فجلست وحدي أتأمل ما يفعل الناس في شهر الصيام وما يقولون، وفي أي حديث يخوضون، فما راعني إلا أن أسمع الناس يسبون شهر رمضان ويلعنون، ويتضجرون منه ويتململون، ويودون فراقه ويشتهون، ويصفونه بأقبح الصفات، ويشيعونه بأسوأ اللعنات، فسألت نفسي فيم يصوم هؤلاء ويمسكون؟ ومازالوا باللغو والباطل يتمسكون؟ أم هم على الصيام