عبأت الحكومة المصرية لجهاد الكولرا الإنجليزية قوى الدولة، وتجهزت للقائها بأحدث الأسلحة من عزل وحصار وعلاج وتلقيح وتطهير ودعاية. وكان المرجو من كل أولئك أن يموت الداء الوليد في مهده، وينكفئ الوباء العنيد عن قصده، وترفض مخاوف الموت عن البلاد في مدى أسبوعين كما وعد بذلك أولو الأمر في أول الأمر. ولكن شهراً يوشك أن ينصرم والعدوى السريعة لا تزال تستشري، والموت بمنجله الحاصد لا يزال يسبق الآجال في كل بقعة! فيما ذا نعلل هذه الهزيمة وأسباب النصر موصولة ونتائجه مكفولة وطرائقه مؤدية؟ نعللها بأن في صفوف العدو طابوراً خامساً يهيأ للمرض الوقود ليشتعل، ويشحذ للموت المناجل ليحصد! ذلك الطابور الخامس هو أطباء وزارة الصحة! ومن الإنصاف أن لا نعمم الحكم؛ فإن من هؤلاء فريقاً لا يزالون أوفياء للإنسانية خلصاء للمهنة، لم يفجروا في يمين أبقراط ولم يخرجوا عن قانون ابن سينا. ولكن هذا الفريق لم يعرف وا أسفاه الإقليم الذي نعيش اليوم فيه!
أكثر هؤلاء الأطباء منهومون بالمال، يتهالكون على جمعه، ويتنافسون في ادخاره. وهم في سبيل تحصيله يسفهون الحق، ويغفلون الواجب، ويجهلون الرحمة وينكرون الحسنى، ثم يخفون اللقاح عن الفقير ليظهروه بالثمن للغني، ويصعبون الدخول في المستشفى ليسهلوا الدخول في العيادة، ويكلون تطبيب المرضى لأجلاف الممرضين وجفاه الخدم، ليلعبوا النرد في القهوة، أو يلهوا بالورق في النادي! ومن جرّاء هذا الإهمال والاستغلال والعنت استحب الناس المرض على الصحة، وفضلوا الحلاق على الطبيب، وضنوا بمرضاهم على المعازل فلم يبلغوا (المركز) عنهم، حتى لا يموتوا وحداء في وحشة، ولا يدفنوا غرباء في مهانة.
هؤلاء الأطباء وأشباههم من غير الموظفين تعرفهم الحكومة بالسماع والخبرة. ولولا سوء رأيها فيهم، وترجيحها ما شاع في الناس عنهم، لما جعلت ألف جنيه مكافأة لكل من يبلغها أن طبيباً تاجر بلقاح أو لقح بأجر.
وإنك لتعجب أن يكون في الناس من لا يشغل باله في سورة الوباء إلا بالثراء، ومن طبيعة الإنسان إذا اكتنفته ظواهر المرض ومظاهر الموت إن يخشع قلبه وتزهد عينه؛ ولكن عجبك ينقضي إذا حشرك الله في زمرة هؤلاء الذين يعيشون على حساب المرض والموت،