. . . والآن فلننظر إلى الجاحظ في ضحكه، ولقد كان الجاحظ ضحوكاً طلقاً تستخفه النادرة فيقهقه ملء شدقيه، ويقصد إلى الإضحاك فيبلغ من ذلك غايته. وإنك لتجده في ضحكه وإضحاكه - كما كان في تهكمه وسخره - مطبوعاً موهوباً خفيف الروح. لطيف الإشارة، ظريف الأداء، طريف المقصد، فهو في إضحاكه يسلك السبيل اللاحب إلى القلب، ويصل إلى قرارة النفس في ملاطفة وسهولة. وخفة وبراعة، وإنه ليهز المشاعر بالنادرة يبتدعها، ويشفي القلب بالملحة يرسلها، ولقد تصرمت السنون وخلت القرون وما زالت نوادر الرجل ومضاحيكه في بطون الكتب إذا ما وقع عليها القارئ فلا يستطيع الإمساك مهما كان في وقاره، ومهما اعتورها بالنظر ورددها في اللسان. وعلى أن النادرة لا يكون لها في الإضحاك مكتوبة كمثل ما يكون لها إذا ما جرت تحت المعاينة، فإن المكتوب لا يصور لك كل شيء. ولا يأتي لك على كنهه وعلى حدوده وحقائقه. وأما إذا ما أخذ الرجل في الضحك فإنه ينطلق في غير احتشام، ويجري في الشوط إلى أبعد غاية. حدث عن نفسه قال: صحبني محفوظ النفاش من مسجد الجامع ليلاً، فلما صرت قرب منزله وكان أقرب إلى المسجد من منزلي، سألني أن أبيت عنده، وقال أين تذهب في هذا المطر والبرد، ومنزلي منزلك، وأنت في ظلمة وليس معك نار، وعندي لبأ لم ير الناس مثله، وتمر ناهيك به جودة، فلمت معه فأبطأ ساعة ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر، فلما مددت قال يا أبا عثمان: إنه لبأ وبه غلظة، وهو الليل وركوده، ثم ليلة مطر ورطوبة، وأنت رجل قد طعنت في السن، ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً، وما زال الغليل يسرع إليك، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء، فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ، كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك، ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك، ولفم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً، وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً كان وكان، والله قد وقعت بين نابي الأسد، لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك، قلت: بخل به وبدا له فيه، وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت لم يشفق علي ولم ينصح، فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً، وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة!! فما