قد ترى إنساناً يسخر من إنسان آخر لأنه في حديثه معه يذكر حقائق مبتذلة يعرفها كل الناس؛ وهذا الساخر قد يعرف أن أحاديث الناس في جملتها من هذا النوع الذي يسخر منه، وأن كونها من هذا النوع يسهل الحديث بين الناس على اختلاف ما يؤهلهم للحديث من علم وفطنة، أو ما لا يؤهلهم له من جهل وغباء. فهذا النوع المبتذل من الحديث الذي يسخر منه الساخر يؤلف بين الناس في مجالسهم ويساعدهم على أن يقضوا وقتاً يريدون إفناءه، ويمنع من انقطاع الحديث زمناً للبحث عن فكرة صائبة غير مبتذلة، كما قد يمنع من الحقد الذي ينشأ بسبب الخلاف على فكرة غريبة غير مبتذلة، أو بسبب حسد جليس لجليسه إذا ظهر عليه بفكرة جليلة. والساخر من الحديث المبتذل قلما ينقم في سريرة نفسه على محدثه إذا كانت آراؤه سخيفة أو مبتذلة قدر ما قد ينقم عليه إذا بذه بالحجة وفاقه بأصالة الرأي. فليس شر الحديث المبتذل، وإنما شر الحديث ما كان لجاجة وحبّاً للظهور بالعظمة وأثرة ورغبة في الانتصار وفي إرغام الناس على إجلال فكر. فان بعض الناس - حتى بعض أفاضلهم وعلمائهم - يرتاد المجالس كي يزهى بعلمه وينتصر بالجدل. وبعض الذين لم ينالوا قسطاً كبيراً من التعليم يشعر بنقص إذا جالس الناس فيعمد إلى إخفاء ما يشعر به من نقص بما يظهر ذلك النقص، فتراه يحول الحديث من الموضوعات الشائعة المبتذلة إلى الأمور العلمية ويحاول أن يسيطر على الحديث باللجاجة وادعاء العلم والإصرار والتهجم على مخالفه، وقد ينفعل انفعالاً نفسياً شديداً، وليس انفعاله من شدة انتصاره للحق ولا من ذعره أن يسود الباطل العالم، وإنما انفعاله من غيظه إذا لم يُمكّن من الانتصار في الحديث ومن إسكات مجادله كي يوهم نفسه وكي يوهم جلساءه أنه لا يشعر بنقص علمه، وقد يفطن جلساؤه إلى أن باعثه على اللجاجة والانفعال شعوره بنقص تعلمه ولا يفطن هو إلى فطنتهم لنقصه فيضع نفسه في منزلة الخزي من غير داع
وتشبث المرء بالحق في المجالس واجب، أما إعلان هذا التشبث بالجدل الذي يؤدي إلى الخصومة والعداوة والبغضاء والتضارب أو التقاتل فمن الضعف وقلة كبح النفس والعجز عن ضبط اللسان. وهذا العجز ليس من الحكمة في شيء بل هو من الطيش الذي قد يندم