عندما فرغت في العام الماضي من قراءة الجزء الأول من كتاب الأستاذ الجليل ساطع الحصري (أبو خلدون) عن مقدمة (ابن خلدون) أيقنت أنني لم أضع وقتي سدى في قراءة هذا الكتاب الثمين، وأيقنت أن ابن خلدون جدير بأن يوليه مفكرونا وكتابنا عنايتهم، كما يوليه مفكر والغرب وكتابه عنايتهم على الأقل، وإن كان واجبنا يقتضينا أن نسبقهم إلى ذلك ونبزهم فيه. . . فليس كثيراً على ابن خلدون أن يكتب عنه الدكتور طه حسين رسالة يكسرها على فلسفته الاجتماعية، ثم يأتي الأستاذ عبد الله عنان فينقل إلى العربية تلك الرسالة، ويزيد فيضع كتاباً جديداً عن حياة ابن خلدون وتراثه الفكري، ثم يتفرغ الأستاذ أبو خلدون لوضع مؤلفه الشامل عن مقدمة ابن خلدون فيملأ أيدينا ووعينا ببحث عجيب مستفيض عن هذا الرجل العبقري الذي يعتبر بحق نابغة الأمة العربية في علم الاجتماع، وقد أصدر الأستاذ ساطع بك الجزء الثاني من بحثه القيم عن المقدمة هذا العام (١٩٤٤)، وما كدنا نراه حتى أكببنا عليه نتلوه، بل ندرسه، في شغف وفي شوق وفي إعجاب
تناول المؤلف في الجزء الأول موقف ابن خلدون من الكهانة والنجامة والسحر ومشيئة الله، والأدوار التي لعبتها هذه الأشياء في التاريخ؛ ثم نبذة شاملة عن حياة ابن خلدون لم يقتصر فيها على ما كتبه المؤرخ عن نفسه في الرسالة المحفوظة بدار الكتب المصرية، والتي تنقص تأريخ فترة طويلة من حياته تبلغ إحدى عشرة سنة إلى وفاته؛ ثم تاريخ كتابة المقدمة وشعور ابن خلدون بأنه إنما استحدث في علم التاريخ حدثاً جديداً لم يسبقه إليه أحد، وانتقل إلى ما حدث من إهمال المؤرخين العرب للأسس التي وضعها ابن خلدون في مقدمته لعلمي التاريخ والاجتماع وما كان من تنبه المؤرخين العثمانيين إليها آخر الأمر، وانتفاعهم بها في وضع تواريخهم، وذلك من نعيما صاحب التاريخ المعروف إلى عبد الرحمن شرف المؤرخ الرسمي الأخير، مما أدى إلى ترجمة المقدمة إلى التركية قبل ترجمتها إلى أية لغة أوربية بنحو من قرن كامل، ثم تناول بعد ذلك لغة المقدمة فشرح نظرية النقد التفسيري شرحا لم يسبقه إليه أحد في العربية، وفسر لنا بعض العبارات التي