كنت عند صديق لي شاب ذكي، نال شهادة البكالوريا، فلم يطف بها على دواوين الحكومة يستجدي (وظيفة) ويسأل (الخزينة) حسنة، كما يفعل كل شاب في هذا البلد، وإنما نزل إلى السوق ففتح للتجارة محلاً يعيش فيه سيداً عزيزاً، على حين يعيش الموظفون مقيدين مسودين، ويأكل خبزه بكسب يده على حين يأكله كثيرون بضمائرهم وأديانهم، ويخدم أمته هادئاً صامتاً على حين يؤذي أمتهم كثيرون، وهم يخطبون الخطب الوطنية، ويملئون الدنيا كلاماً جميلاً. . .
كنت عند هذا الصديق، ومن دأبي أن أزوره كلما مللت العمل أو نزلت إلى البلد، آنس به، وأشرف من دكانه على الدنيا فأرى ما فيها. . . فرأيت رجلاً يدخل عليه، فيريه نماذج من البضائع يعرض عليه أن يكون وكيل معملها، والتفرد ببيعها لما سمع عنه من الثناء وما وصف له به من الذكاء والاستقامة، ويخبره بالأثمان، فيتهلل وجه صاحبي، ويشرق فرحاً بهذه الأرباح التي سينالها، ولكنه يتريث فيسال الرجل أن يدع له البضاعة ويتركه ساعة يفكر، ثم يعود إليه فيأخذ الجواب. . .
فيمضي الرجل، ويميل علىَّ صاحبي فيسر إلى أن هذه الصفقة أجدى من دكانه وما فيه، فأهنئه وأتمنى له ما يتمنى لصديقه الصديق، ولكنه لا يلبث أن يقلب البضاعة فيعلو وجهه الأشمئزاز، ويبدو عليه الغضب. فأسأله: مالك يا صاحبي؟
فقال: مالي؟ إنها بضاعة صهيونية!
فقلت له: وماذا يعينك منها؟ أنت تاجر، فبع من شاء أن يشتري ولا تدعُ إليها أحداً
قال: معاذ الله! أأنا عدو وطني وديني؟ إني تاجر، ولكني أعلم أن على التاجر أن يخدم أمته من الناحية التي أقامه الله فيها كما يخدمها المعلم والموظف والصحفي. . . وخدمة الأمة بأن تتقدم لها منفعة في مالها أو أخلاقها أو أبنائها أو صحتها، أو تدرأ عنها ضرراً. ليست خدمة الأمة بالجعجعة والصياح والخطب المدوِّية والمقالات الطنانة؟
قلت: وهذا الربح الذي وصفته لي أترضى بأن تدعه لغيرك؟