للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[جلالة الفاروق ولويس الرابع عشر]

للدكتور محمد غلاب

الآن، وبعد أن تكسرت على صخرة أحداث المفاوضات موجة التأثر التي أثارها في النفوس التجاء ملك إيطاليا المتجرد من عرشه إلى مصر، فإننا نستطيع أن نرسم في إيجاز تلك العاطفة التي أحسسنا بها عندما طالعنا في الصحف وصف تلك الحفاوة الملكية الرائعة التي استقبل بها عاهل أرض الكنانة ذلك الملك المبعد عن بلاده. ولقد كانت في طليعة تلك الأحاسيس التي شعرنا بها حين قرأنا هذا النبأ عاطفة النشوة الناجمة عن الإحساس بأن مصر قد بدأت تسترد عزتها الداثرة، وتستعيد عظمتها الغابرة، وأن أشعة هذا الأمل العذب قد أخذت تتمثل في استعداد وادي النيل لإيواء الملوك اللاجئين والأمراء المبعدين، ولم لا؟ ألم يكن من أبرز مفاخر فرنسا إلى هذه السنين الأخيرة أنها قبلة اللاجئين، وغاية المهاجرين، ولا سيما الملوك والأمراء الذين لأمر ما تعذر عليهم الثواء في بلادهم. ولا جرم أن في هذه الخاصية من خصائص الدول معنى من أبهى معاني الرفعة والسمو، لأنه يلطف آلام فريق من أولئك التعساء، ويحيي الأمل في نفوس فريق آخر منهم، ويشعر فريقاً ثالثاً بأن الإنسانية لم تتحول كلها إلى وحوش ضارية، لان الإكرام العملي والحفاوة الواقعية يتركان في النفوس من محمود الأثر ما تعجز عن تأديته العبارات المعسولة التي لا تكلف المتفيهقين بها كثيراً ولا قليلاً. ونحن إذا نظرنا إلى هذه الظاهرة نظرة عميقة ألفينا أن الفضل الأول فيها عائد بالذات إلى حضرة صاحب الجلالة مليكنا المفدى الذي عرف كيف يكشف أسرار عظمة الدولة، ثم يطبعها بطابع خاص تتحقق فيه الدقة والرقة والمثالية إلى جانب ثماره الأساسية، وهي المجد والفخار والخلود. وكيف لا تكون هذه السماحة النادرة، وتلك البشاشة النبيلة، وذلك الإكرام الكامل من الأمور المثالية في هذا العصر الذي كادت الإنسانية فيه - مع الأسف الشديد - تفقد كل معالمها، والذي أصبح فيه الشغل الشاغل لأكثر الدول هو التفكير في وسائل ونتائج الاستيلاء على حقوق الغير واغتصاب ممتلكاتهم الشرعية تارة في مجون واضح وصفاقة بغيضة، وأخرى تحت ستار الدفاع عنهم أو تحسين حالاتهم الاجتماعية.

وفوق ذلك، فإن هذه الحادثة قد أعادت إلى مخيلتي ذكريات تلك المحامد النبيلة التي انفرد

<<  <  ج:
ص:  >  >>