للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بها الشرق، وهي البشاشة التقليدية والسخاء الموروث وإكرام الضيف دون أية علة أخرى غير الالتذاذ النفساني بتحقيق العمل المجيد وما إلى ذلك من العواطف العالية التي أوشكت واقعية عصرنا الحاضر أن تسحب عليها أذيال النسيان.

أسند بعض الكتاب ذلك المظهر الملكي الجليل الذي استقبل به مليكنا ضيفه اللاجئ الأخير إلى فضيلة عرفان الجميل من جانب جلالته نحو أسرة سافوا، وتلك بلا ريب عاطفة جليلة جديرة بأن تدفع النفوس الملكية أكثر من غيرها إلى رد خير الصنيع إلى أهله، ولكن أليس تعليل أولئك الكتاب هذا المظهر الفاتن بتلك العاطفة وحدها يخفي كثيراً من جوانبه الأخرى الخلابة وعناصره الجوهرية التي نحن على يقين من أنها قامت بدور أساسي في تصرف جلالة مولانا الملك وبواعثه؟ ومن هذه العناصر الأولية التي غفل عنها أولئك الكتاب تلك الدوافع التي فطرت عليها النفوس النبيلة والطباع الكريمة، والتي لا تزال تنعش ذوي المحاتد العريقة وتدفعهم إلى القيام بالأفعال الخليقة بالخلود في ذاكرة التاريخ تتخذ منها الكافة نبراسها في دياجير الحياة، وتجد فيها الخاصة دروساً في العظمة، والتي تنشئ لدى الشعوب ملكة تذوق المجد المجرد من النفعية، وهل يحسب أولئك الذين طغت عليهم روح الواقعية أنه من الممكن أن تستغني الإنسانية عن هذه الأحاسيس السامية، وأن تكتفي بتلك المدنية المادية مهما بلغت أعلى آواج السطوع والإخصاب؟

نحن لا نحسب أن الإنسانية مقصورة على هذه الروح الواقعية منحصرة في هذه الدائرة العملية الضيقة، وإلا فما هو سر جاذبية تلك الصور التاريخية الساحرة التي فتن جمالها القلوب، وخلب سموها النفوس، والتي قدمت إلى أهل الحياة العملية فريقاً آخر من البشرية ضحوا براحتهم وهدوئهم، بل بحياتهم أحياناً في سبيل الشهامة والمروءة المثاليتين. وهكذا لم أطالع في الصحف نبأ تلك الحفاوة الرائعة المؤثرة التي قام بها جلالة مليكنا المفدى نحو ملك عريق مهاجر من وطنه حتى أحسست بذكريات تنبثق من غياهب التاريخ وتنقذف إلى ذاكرتي، وسرعان ما أحسست بتوثق وجه الشبه بين تلك الأحداث التي طوت العصور ممثليها ولم تقو على محوها من سجل الزمن، وبين ذلك الحادث الكريم الرفيع. ولقد كان في طليعة هذه الذكريات الخالدة حفاوة لويس الرابع عشر ملك فرنسا العظيم بجاك الثاني ملك إنكلترا حين قلب له الدهر ظهر المجن.

<<  <  ج:
ص:  >  >>