قلت لنفسي: ويحك يا نفسُ! ما لي أتحاملُ عليك؛ فإذا وفيتِ بما في وسعك أردتُ منك ما فوقه وكلفتُك أن تسعى؛ فلا أزال أُعْنِتُكِ من بعد كمال فيما هو أكملُ منه، وبعد الحسن فيما هو الأحسن، وما أنفك أُجهدكِ كلما راجعك النشاط، وأُضنيك كلما ثابت القوة؛ فان تكن لك همومٌ فأناأكبرُها، وإذا ساورتك الأحزانُ فأكثرُها مما أجلبُ عليك. أنت يا نفس سائرة على النهج وأنا أعتسفُ بك، أريد الطيران لا السير، وأبتغى عمل الأعمار في عُمر، وأستحثُّك من كل هجعة راحةٍ بفجرٍ يمتد منه نهارٌ مضطرب؛ وكأنى لك زمن يُمادُّ بعضه بعضاً، فما يبرح ينبثق عليك من ظلامٍ بنورٍ ومن نورٍ بظلامٍ؛ ليهيأ لك القوة التي تمتد بك في التاريخ من بعد، فتذهبي حين تذهبين، ويعيش قلبك في العالم سارياً بكلمات أفراحه وأحزانه.
وقالت لي النفس: أما أنا فإني معك دأباً كالحبيبة الوفية لمن تحب؛ ترى خضوعها أحياناً هو أحسن المقاومة. وأما أنت فإذا لم تكن تتعب ولا تزال تتعب، فكيف تدلني أنك تتقدم ولا تزال تتقدم؟ ليست دنياك يا صاحبي ما تجده من غيرك، بل ما توجده بنفسك؛ فان لم تزد شيئاً على الدنيا كنت أنت زائداً على الدنيا، وأن لم تدعها أحسن مما وجدتها، فقد وجدتها وما وجدتك، وفي نفسك أول حدود دنياك وآخر حدودها. وقد تكون دنيا بعض الناس حانوتاً صغيراً، ودنيا الآخر كالقرية الململمة، ودنيا بعضهم كالمدينة الكبيرة؛ أما دنيا العظيم فقارة بأكملها، وإذا انفرد امتد في الدنيا فكان هو الدنيا. والقوة يا صاحبي تغتذي بالتعب والمعاناة؛ فما عانيته اليوم حركةً من جسمك، ألفيته غداً في جسمك قوة من قُوى اللحم والدم. وساعة الراحة بعد أيام من التعب، هي في لذتها أيام من الراحة بعد تعب ساعة. وما أشبه الحي في هذه الدنيا ووَشك انقطاعه منها - بمن خُلق ليعيش ثلاثة أيام معدودة عليه ساعاتها ودقائقها وثوانيها؛ أفتُراه يغفل فيقدرها ثلاثة أعوام، ويذهب يسرف فيها ضروباً من لهوه ولعبه ومجونه، إلا إذا كان أحمق أحمق إلى نهاية الحمق؟
أتعب تعبك يا صاحبي، ففي الناس تعب مخلوق من عمله، فهو لين هين مسوًّى تسوية؛ وفيهم تعب خالق عمله، فهو جبار متمرد له القهر والغلبة. وأنت إنما تكد لتسمو بروحك إلى هموم الحقيقة العالية، وتسمو بجسمك إلى مشقات الروح العظيمة؛ يا صاحبي ليس تعباً