في حفر الأرض ولكنه تعب في حفر الكنز. إتعب يا صاحبي تعبك؛ فان عناء الروح هو عُمرها، فأعمالك عمرك الروحاني، كعمر الجسم للجسم؛ وأحدهما عمر ما يعيش، والآخر عمر ما سيعيش.
قلت لنفسي: فقد مللت أشياء وتبرمت بأشياء. وأن عمل التغيير في الدنيا لهو هدم لها كلما بُنيت، ثم بناؤها كلما هدمت: فما من شيء إلا هو قائم في الساعة الواحدة بصورتين معاً؛ وكم من صديق خلطته بالنفس يذهب فيها ذهاب الماء في الماء، حتى إذا مر يوم، أو عهد كاليوم، رأيت في مكانه إنساناً خيالياً كمسألة من مسائل النجاة فيها قولان. . .! فهو يحتمل تأويل ما أظن به من خير، وما أتوقع به من شر! وكم من اسم جميل إذا هَجَس في خاطري قلت: آه، هذا الذي كان. . .!
أما والله إن ثياب الناس لتجعلهم أكثر تشابهاً في رأى النفس، مما تجعلهم وجوههم التي لا تختلف في رأي العين. وإني لأرى العالم أحيانا كالقطار السريع منطلقاً يركبه وليس فيه من يقوده. ورأى الغفلة المفرطة قد بلغت من هذا الناس مبلغ من يظن أنه حي في الحياة (كالموظف تحت التجربة). فإذا قضى المدة قيل له: ابدأ من ألان؛ كأنه إذا عاش يتعلم الخير والشر، ويدرك ما يصلح وما لا يصلح، وانتهى من عمره إلى النهاية المحدودة - رجع من بعدها يعيش منتظماً على استواءٍ واستقامة، وفي إدراك وتمييز. مع أن الخرافة نفسها لم تقبل قط أن يعد منها في أوهام الحياة أن رجلاً بلغ الثمانين أو التسعين وحان أجله فأصبحوا لم يجدوه ميتاً في فراشه، بل وجوده مولوداً في فراشه. . .! وقالت لي النفس: وأنت ما شأنك بالناس والعالم؟ يا هذا، ليس لمصباح الطريق أن يقول:(إن الطريق مظلم) إنما قوله إذا أراد كلاماً أن يقول: (هأنذا مضيء.) والحكيم لا يضجر ولا يضيق ولا يتململ، كما أنه لا يسخف ولا يطيش ولا يسترسل في كذب الوهم؛ فان هذا كله أثر الحياة البهيمية في هذه البهيمة الإنسانية، لا أثر الروح القوية في إنسانها. والحيوان هو الذي يجوع ويشبع لا النفس. وبين كل شيئين مما يعتورُ الحيوانية كالخلو والامتلاء، واللذة والألم - تعمل قوى الحيوان أشياءها الكثيرة التي تتسلط بها على النفس لتحطها من مرتبةٍ مرتبةٍ إلى أن تجعلها كنفوس الحيوان؛ ولهذا كان أول الحكمة ضبط الأدوات الحيوانية في الجسم، كما توضع اليد على مفاتيح القطار المنطلق يتسعر مرجله ويغلي.