لعلك بعد هذا العرض المنهجي - الذي أوضحته لك في المقال السابق - توافقني على أن الثعالبي كان مؤرخاً فنياً وأديباً لوذعياً، على حين كان الأصفهاني مؤرخاً استطرادياً يقصر جهوده عند سوق الأخبار وهو يكيلها لك بغير حساب أو منهج يرتضيه عرف الحدثين اليوم.
ولعل المقارنة بين الرجلين لا تقف بنا عند هذا القدر. فهناك جانب خطير أول ما يستلفت الباحث فيه سعة الأفق التي نلحظها في مؤلفات الثعالبي حيث لم يكتف بما اكتفى به الأصفهاني من مؤلفات لا تتجاوز مادة الأدب. يدلك على ذلك أنك لا ترى علماً من علوم العربية إلا وله فيه إصبع ومشاركة وجولات واسعة تميزه عن غيره.
صحيح أن الأصفهاني يشارك صاحبه في تاريخ الأدب ولكنه خالفه في الطريقة حيث لم يتجاوز هذا التاريخ الاستطرادي الصامت الذي ذكرناه. ولا نكاد نستثني من ذلك إلا شذرات اعترف له بها المؤرخون في (تاريخ النقد الأدبي).
فقد عاش الأصفهاني في عصر كان مليئاً بالأصداء النقدية، رسم النقاد خلاله خطوطهم الأولى في حياة النقد الأدبي. وقد كان ذلك عقب المعارك الأدبية التي دارت حول أبي تمام (٢٣١هـ) والبحتري (٢٤٨هـ) من ناحية، وحول أبي الطيب المتنبي (٣٥٤هـ) شيخ شعراء ذلك العصر، والصاحب بن عباد (٣١٥هـ) زعيم نقدة الكلام وحامل لواء الكتابة والبيان في النصف الثاني من القرن الرابع - من ناحية أخرى).
هاتان المعركتان الأدبيتان وأمثالهما في القرن الرابع خلقت جيلاً عظيماً من النقاد الذين حملوا لواء النقد ووضعوا الأسس الأولى في حياته العلمية؛ فكان من بينهم: أبو بكر محمد بن يحيى الصولي (٢٣٥هـ) صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) وأبو الفرج الأصفهاني (٣٥٦هـ) والقاضي عبد العزيز الجرجاني (٣٦٦هـ) صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه) وأبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي (٣٧١هـ) صاحب كتاب (الموازنة بين الطائيين) والصاحب بن عباد (٣٨٥هـ) صاحب كتاب (الكشف عن مساوئ شعر