المنهج الذي درسناه وهو ما يملأ كتاباً يقع في خمسمائة صفحة من القطع الكبيرة فأنا لا أعرف منه شيئاً، وأقول لا أعرف لا لا أذكر، ومع هذا فقد امتحنت في الكيمياء ونجحت لأنني - وأعترف - حفظتها على غير فهم، فما سلمت ورقة الإجابة إلى المراقب حتى سلمت معها كل ما كنت أحفظه. قد يكون غباء ما ألم به إزاء الكيمياء، غير أني أجد الكثيرين من الأذكياء يشاطرونني هذا الجهل.
العلوم أشياء جامدة ينفخ فيها المدرس من روحه فيهب فيها الحياة، ولا يهب الحياة إلا خالق، ولا يصل إلى مرتبة الخلق إلا من تكاملت مقوماته وتوثقت ثقافته، ولا يمكن لهذه المواهب أن تكتمل، ولا لهذه الثقافة أن تتوثق إلا لشخص اطمأنت له جوانب الحياة وارتاح في مجال حياته، وهدأ تفكيره فيما يرتزق منه. أما إذا أكبت عليه المطالب الدنيوية وعلا صراخ أطفاله في أذنيه وانسعرت من حوله الأيدي المطالبة، وانثنت عنه الأيادي الواهبة، فلا أمل لنا فيه وقد كان المدرس إلى عهد قريب لا ينال من العناية المادية ما يشجعه على المضي في أداء الرسالة الضخمة الملقاة على عاتقه، فإن كان قد أهمل أو تراخى فلا جناح عليه، وإذا كان قد قدر لواحد من هؤلاء المدرسين أن يتغلب على هذه المصاعب المادية بروح له سامية أو بمورد آخر يدر عليه شيئاً، إذا كان قد قدر له هذا فهو لابد قد اصطدم وما يزال يصطدم بشاهقة أخرى تمنعه أن يخرج بتلاميذه عما أمرت وزارة المعارف دون التلاميذ، وشروط الإرضاء سهلة ميسورة، فما عليه إذا أراد أن يرضي المفتش إلا أن يتبع أوامر الوزارة في إلقاء درسه بعد أن يجمل كراسة تحضيره، فإن نفذ هذا أصابه من الخير ما تتقاصر دونه شم الهمم، وما على المدرس إذا أراد أن يرضي الناظر إلا أن ينجح تلاميذه في امتحانات السنة الدراسية، فيصبح له المكان السامق الرفيع، أما إذا أراد أن يرضي ضميره، فهو سيغضب المفتش والناظر جميعاً، وما أظننا نقسو عليه فنطالبه بإرضاء ضميره المستخفي في أغوار نفسه، ليغاضب الرؤساء، ويغاضب بعضهم عيشه وحياته.