أخشى أن يكون أهم أركان إحساس الشاعر بمعانيه إحساساً كاملاً نافذاً متغلغلاً، لا يدعُ للمنطق العقلي المجرد عملاً في تكوين شعوره. وليس معنى ذلك أن يتعرى الشعر من المنطق العقلي المجرد، بل معناه أن ينقلب المنطق العقلي - بكماله وتمامه وقوته واستوائه واستقامته - حاسةً دقيقة مدبرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتصريفه في وجوهه على هدىً لا يضل معه، فلا يشرد عن الغرض الذي يرمي إليه في التعبير عن الصور التي تنشأ لهذا الإحساس. وإذن فأكبر عمل المنطق العقلي في الشاعر - أن يُمِدَّ الإحساس، بما ليس له من الاستواء والاستقامة والسداد، وكذلك تتداعى إليه الألفاظ التي يريد التعبير بها مقترناً بعضها إلى بعض، بحيث لا تخرج هذه الألفاظ في الكلام حائرة قلقة، تجول في عبارتها من انقطاع الرباط الذي يربطها بالمعاني التي أحسها الشاعر، فهاجته فغلبته فأراد التعبير عنها تعبيراً صافياً مهتزاً متغلغلاً قوياً، فيه صفاء الإحساس واهتزازه وتغلغله وقوته
وأداة المنطق لعقلي هي اللغة، والعقل بغير اللغة لا يستطيع أن يستوي ويتسلسل ويتصل، ولا أن تتدفق معانيه في مجراها الطبيعي.
فالمنطق العقلي كما ترى هو خزانة اللغة التي تمول الإحساس، فهو يتقاضاها ما تستطيع أن تمده به من المادة التي تمكنه من الظهور والانتقال. فربما أخذ من اللغة ما هو (موصل رديء) للإحساس، وربما أخذ منها ما هو (موصل جيد) يستطيع أن يسرى فيه إلى قارئه أو سامعه. فإذا عرفت هذا أيقنت أن الشعر يتصل أول ما يتصل بإحساس قارئه وسامعه، فيهزه بقدر ما تحمل ألفاظه من إحساس قائله. فإذا أخفق أن يكون أثره كذلك، فمرجع هذا إلى أحد أمرين:
إما أن الشاعر لم يوفق إحساسه في الاستمداد من لغته - ما يطابق الإحساس ويكون (موصلاً جيداً) له؛ لأن منطقه العقلي لم ينبذ إليه من مادته ما هو حق المعاني التي يتطلبها إحساسه، هذه واحدة. أو لأن مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى. ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيراً من