جاء قيس محققاً ما تمناه والداه، لا يعرف قلبه سوى أخلص الحب. . . يعشق الجميل ويحب الجمال. . . فكان وهو في مهده يتطلع إلى الفتيات الجميلات المليحات، ويرنو إليهن في شغف ونهم، كأن في منظرهن ما يجلب السرور إلى قلبه، أو ما هو غذاء لنفسه الصغيرة، يصيح في طلبهن إذا ابتعدن عنه، ويبكي في توجع وتوسل ليقترب منهن إذا لم يستطع رؤيتهن. ثم صار يجالسهن ويحادثهن ويستنشدهن الشعر، حتى حفظ منه الكثير، فاكتسب حديثه طلاوة ولباقة، وأسلوبه أناقة وطرافة، وأخذ على صغر سنه يقرض شعر الغزل وينشده، ويغازل به الفتيات ويشبّب بهن، وكأنه جاء من عالم آخر لا يعرفه بنو عامر، ولا عهد لهم به، فالحب والغزل في رأيهم (إنما يكون في اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رءوسها).
ولما كبر الصبي وفات سن الطفولة، أرسله أبوه إلى المدرسة مع أقرانه الصغار من الفتيات والفتيان. وبين الفتيات كانت فتاة تسمى (ليلى)، كان أبوها شيخاً لبطن أخرى من بطون بني عامر، ووقعت ليلى موقعاً حسناً من قلب قيس فمال إليها وأحبها وقال في وصفها:
وتُرى مدامعُها ترقرُقَ مُقْلَة ... سوداء ترغبُ عن سواد الإثمِدِ
خوْدٌ إذا كثُرَ الكلام تعوذت ... بحِمى الحياء وإن تَكلَّم تقصد
ووقع لقيس في قلب ليلى مثل ما وقع لها في قلبه، فكانا يجتمعان كل يوم في المدرسة ليدرس كل منهما ما يتجلى في نظرات صاحبه وقسماته من الحب والهيام. وحاولا أن يخفيا حبهما عن أصحابهما. . . ولكن عبثاً. . . فإن الحب يشبه الطيب أو المسك إذا وجد في