أمجاد قضاتنا الأولين، وفاخر به عصرنا العصور السالفات. .
. عارف الكندي)
يا سادتي! أحب أن أكون هذه العشية مؤرخاً لا شاعراً، وأن أعرض عليكم حقائق ثابتة بأسلوب هادئ، فلا أفخر ولا أبالغ، ولا أملأ الأذان إغراقاً وتهويلا، فإذا سمعتم مبالغة فاعلموا أن الواقع هو الذي يبالغ، وما هو ذنبي إذا كان قضاتنا الأولون قد نظموا بأعمالهم قصائد دونها في الفخر معلقة ابن كلثوم، وجعلوا من مناقبهم مفخرة خالدة لكل من قال (أنا عربي)، أو قال (أنا مسلم). . . كانوا أعلام الهدى في طريق العدالة، وكانوا الدراري في سماء القضاء، قد بذوا كل سابق وفاتوا كل لاحق، وما كان مثلهم، ولا أحسبه يكون!
أني والله أخذ تاريخهم فاختصره وألخصه واعرضه عليكم، وربما أشرت إشارة عابرة إلى القصة لو سمعتموها على اصلها ما دريتم لفرط ما يخالطكم من السمو والزهو وهزة الطرب وأخذة العجب! أفي أرض انتم أم في سماء. . . لا تعجبوا، ففي تاريخنا من الأمجاد ما لو أفيض على أفراد البشر لجعلهم كلهم عظماء!
وبعد، يا سادتي، فإن القضاء أعلى درجة استطاع البشر الارتقاء إليها. ارفعوا القضاء من تاريخ الإنسان يهبط إلى درك البهائم، ويأكل القوى من بني آدم الضعيف، وإن معنى الإنسانية وحقيقتها في الحياة المجتمعة الهادئة الآمنة، التي لا يطغى فيها أحد على أحد، والتي تصان فيها الحوادث والحريات، وتحفظ الدماء والأعراض، ويتحقق فيها التعاون على جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا يكون ذلك كله إلا بالقضاء.
والقضاء - عند المسلمين - أقوى الفرائض بعد الإيمان، وهو عبادة من أشرف العبادات، لأنه إظهار للعدل، وبالعدل قامت السموات والأرض. وصف الله به نفسه إذ قال (فالله يحكم بينهم) و (أن ربك يقضي بينهم)، وأمر به نبيه فقال (وإن احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع