كثيراً ما تكون ذاتية الأديب سبباً في تضارب آرائه أو هدمها وخاصة حين يعمد إلى مقارنة كاتب بآخر من كتاب تاريخ الأدب العربي، فيحمله تعصبه للواضع أن يقدم آثاره على آثار غيره، أو يقدمه على أترابه من أجل سفر واحد من أسفاره
هذا ما لمسته حين أثار جماعة من الأدباء نقاشا حادا حول كتاب (الأغاني) الأصفهاني وكتاب (يتيمة الدهر) للثعالبي. وكانت المفاجأة عجيبة حقاً حين رأى ذلك الناقد الكريم أن كتاب الأغاني أدى إلى الرسالة الأدبية القدر الذي لم يؤده كتاب اليتيمة. ولعل ذلك الناقد هاله أن يقع كتاب الأغاني في واحد وعشرين جزءاً على حين يقع الآخر في أربعة أجزاء. وعلى هذا أصبح الأصفهاني - في نظره - أحق بالتقديم من صاحبه
هذه أحكام سريعة مليئة بالخطأ والعيوب. ولعله لم يحملنا على الوقوع فيها إلا في الأحكام السطحية التي نرسلها قبل الدراسة العميقة والآراء المحمصة
ولو أننا نستعرض حياة الأصفهاني في القرن الرابع والثعالبي في أوائل الخامس، ثم أخذنا نوازن بين آثارهما ومقوماتهما الأدبية لاستطعنا أن نجيل الحديث على غير هذا النحو، وأن نرسل أحكاماً دقيقة تقوم على الحجة والبرهان
كان الأصفهاني (٣٥٦هـ) والثعالبي (٤٢٩هـ) شيخي عصرنا في تاريخ الأدب ودراسته. وقد حملاً إلينا خلاصة الآثار الأدبية التي وصلت إلى علم هذين القرنين. ولكن شتان ما بين الرجلين في طريقة الأخذ وفي طريقة علاج النص الأدبي
ولعلنا نجد في حياة الرجلين وآثارهما وأسلوبهما ما يعيننا على تلمس ما بينهما من هوة واسعة في نقل (المادة الأدبية) إلينا وفي طريقة حملها وأدائها
عاش الأصفهاني في النصف الأول من القرن الرابع وهو عربي من نسل أمية، وولد بأصفهان يوم كانت موطن كثير من الأشراف النازحين والأمويين الهاربين خلال العصر العباسي الثاني. ولكنه انتقل إلى بغداد سريعاً حيث نشأ وتعلم. وهنالك جمع مادة كتابه الأغاني من الإخباريين وتلقفه من أفواه المؤرخين والمغنين ورواة الشعر، في الوقت الذي كانت فيه بغداد تموج بميادين الشعر، وتكاد تضيق بالشعراء والأدباء على اتساعها،