أتذكر - يا صاحبي - يوم أن جذبك أبوك من خضم الأزهر وأنت فتى في ريع الشباب فارع القوام قوي البنية وثيق الأركان جذبك بعد أن عشت في رحابه سنوات تضطرب في متاهات العلم فلا تستقر، وتضل في مضلات المدينة فلا تهتدي، وتضع لقسوة الشيخ فلا تشمخ، وتفزع عن حلقة الدرس فلا تطمئن. لقد كان يعتز بك لأنك ابنه الأصغر فأرسلك إلى الأزهر عسى أن يراك - بعد حين - شيخا، كعمك، تتألق في الجبهة والقفطان وتزهو في العمة واللحية، فتكون قبسا من نور العلم في القرية، والنفحة في ضياء الهدى في المجلس، وموعظة طيبة في ضلال الجهل. ولكن بدا له أن يجذبك من الأزهر قبل أن تبلغ الغاية للتزوج بفتاة في مثل سنك فيها الثراء والجمال، وفي أهلها الجاه والسلطان وفي ذويها العز والمنعة فصحبته إلى القرية والخيال الحلو ويتوثق في رأسك، وان أهابك ليكاد ينشق من شدة الفرح وهو يتألق على جبينك وان خواطرك للتنزي مرحا جامحا ترتسم سماته على قسمات وجهك، وان ذهنك ليضطرب في آفاق جميلة من النشوة واللذة. وأحسست في أعماق نفسك - وأنت في طريقك إلى القرية - انك اليوم تفر من قسوة الشيخ وعنت الدرس، وتنأى عن خشونة العيش وجفوة الغربة لتعيش إلى جانب أمك تستشعر العطف والحنان، وانك ستفر - غدا - من سطوة أبيك وهو غليظ الكبد جافي الطبع جامد الكف لتصير رجلا. . .
وجاءت الزوجة تحمل إليك متعة القلب ولذة النفس، وتزف إليك سعة العيش وسعادة الحياة، وتنزع عنك ذل الحاجة لأبيك، وتلبس ثوب الرجولة الباكرة، وتحطم أغلالا من الإسار كبلك بها أبوك زمانا، فأصبحت حر اليدين واللسان، طليق الآخذ والعطاء، ولا يقيدك غل من سلطان أبيك، ولا تمسك ربقة من جفوته، فاطمأنت نفسك وهدأت نوازعك. ومرت السنون.
وانطلقت في فورة الشباب إلى الغيط نجد المتعة في العمل وتحس السعادة في الجهد، ولا تشغلك اللذة الوضيعة ولا بصرفك اللهو الرخيص، وأنت من بيت فيه الصلاح والدين وفيه