كما تتوارى هذه الشمس في النهار المدجن خلف كسف من السحاب مركوم فلا يفتأ ينم عليها ساطع من سناها، يوشي أطراف السحابة بلألأئه، ويكاد ينبثق على جنباتها انبثاقا. . كذلك تستكن العبقريات النواشيء في زوايا بعض النفوس غير منفكة عن إرسال أقباسها الدالة عليها، في سدفة هذا الظلام المكتنف صاحبها، من فقر أو ضعف، أو أتضاع شأن أو بكورة سن، أو غير ذلك من سائر هذه المعوقات التي تؤخر تجلي المواهب، وتملأ السبيل إلى المجد بالشوك والصخور. .
ولهذه النباهة التي تهبط على الخاملين فجأة دلائل وإرهاصات قل من يدركها في حينها؛ لكن قل أيضاً من لا يعجب لنفسه كيف فاته أن يدركها في ذلك الحين! ومن هنا كان المرتقي أمام العصاميين شاقاً طويل المدى، لا يكاد يوفي على غايته منهم إلا كل صافي الجوهر في العبقرية، قوى المنة على مواجهة مصاعب الحياة ومقارعة أحداثها. .
والعصامي محروم - أول أمره - مما يستند إليه الناس عادة من الحرمة أو سابقة الفضل؛ وهو ملقى بلكيد منكوب بالمعارضة، موزع جهده بين التقدم تارة ودفع التعويق تارات، مقسومة قواه بين البناء من جانب وتوقى الانهيار من جانب آخر. . .
وأغرى الناس بمنابذته وأشدهم بأساً في مضارته، هم أدناهم إليه مكانا، وألصقهم به وشيجة ونسباً. . من أهل بلده وذوي قرباه، ومن رصفائه وأنداده الذين يشركونه في سن أو عمل، أو نزعة واتجاه.
وكأنما يعجب هؤلاء لفرد من أوساطهم، أو من أدانيهم، يسمو إلى منزلة لم يروه من قبل لها أهلا، ويبلغ من جاء الحياة أو من ثرائها حظاً لم يقدروا له أن يبلغه. وما أشد تقتير الناس في تقديرهم.
فلا غرو - وهذا هو الوضع - أن يكون لأكثر العصاميين ثارات قديمة عند أوطانهم الأولى حيث مرابع طفولتهم ومراتع صباهم. . تلك التي شهدت من بواكير ضرهم وبأسائهم ما لم يشهد سواها؛ ثم عند مواطنيهم الأقربين فيها، وهم من ذاقوا على أيديهم أول ما ذاقوا من كؤوس الحرمان والأذى، وتجرعوا أول ما تجرعوا من مرارة التثبيط