برح السلطان الغوري قصره الكبير عدة مرات إلى ناحية النيل، ليراقب نشاط العمل في بناء السواقي التي أمر بإنشائها لتمد حدائق الميدان بالمياه العذبة المتدفقة في القنوات الخاصة بين النيل والقلعة.
وفي أحد أيام ٩١٥هـ كان العمل في السواقي والقنوات قد تم، وأنسلت مياه النيل جارية تسعى إلى البساتين السلطانية. فأشاعت فيها حياة جديدة، ضحكت بها الأرض عن زرع نضر ونبات وسيم، واهتزت الأشجار وتثنت غصونها تثنى الساكر النشوان، ودبت بشاشة الحياة في الأعواد، فاخضر يابسها وانبسط عابسها، وتجمع نوارها وأشرقت أزهارها، ودنت قطوفها، وألقت على الأرض ظلا ممدوداً.
وكان كل بناء في الميدان قد أخذ سمته إلى الكمال كما شاء السلطان: من قصور غضة إلى غرف بضة، ومن مقاعد وثيرة إلى سلالم مدرجة، ومن جداول رقراقة إلى برك مموهة، إلى غير ذلك مما ينم عن ترف أصيل وعز أثيل، فيه للعين جلوة، وللنفس سلوة، وللأحبة دعاء، وللمسرة نداء. .
وأراد السلطان أن يكتمل أنسه، ويبتهج مجلسه، بالعلية من أمراء دولته، والجلة من أعيان مملكته، والصفوة من رجال سلطنته، ليقضي معهم يوم فرح وليلة سرور، ويتذاكرون بعض الشؤون؛ ويزيدون في المودة رباطاً؛ وفي المحبة وشيجة، وليقاسموه المتعة بما بناه، واللذة بما شاده، وليسمع منهم أحاديث الثناء عليه، وأناشيد الدعاء له. .
أنتشر الخدم ورجال القصر، منذ هذا اليوم في أرجاء الميدان، ينظفون وينظمون ومعهم البستانيون، فجنوا من الفواكه، ومن الأزهار ما ابتسم، وفرشوا المقاعد بحشياتها الثمينة